إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

تفاحة متروك

أبو هاشم حامد الشريف

خيَّم على القرية في تلك الليلة الباردة ظلام دامس حتى أنك بالكاد ترى ظاهر كفك، كانت الريح ترسل سيمفونية من الصفير والزئير أبدعته كمية الأشجار والهضاب التي كانت الريح تمر من خلالها، صمت رهيب؛ حتى نباح الكلاب ونقيق الضفادع لم يعد له وجود وكأنما هو تجمد أيضًا من شدة البرد. شق هذا السكون الرهيب صوت قدوم سيارة كبيرة؛ يظهر ذلك جليًّا من جلبة مكينتها؛ قفزت بعض الكلاب وهي تنبح من جحورها في الهضبة الكبيرة وبعض الغيران الصغيرة المتناثرة حول أحد الركبان، أزعج صوت السياره ونباح الكلاب بعض أهل القرية، حاولوا أن يستوضحوا عن الأمر ولكن البرد والظلام الدامس جعلهما يتراجعون عن ذلك ويحكمون إغلاق شبابيكهم والعودة للنوم في الدافئ.

كان الوقت بعيد منتصف الليل، وعندما انبلج نور الفجر كانت هناك خيمة منصوبة في طرف أحد الركبان، تَبيَّن أهل القرية أنها لعم متروك الذي هرب من الطائف بسبب معاناته من بعض أبناء حيهم الذين ضايقوه هو وزوجته وابنه رغم أنه صبر عليهم كثيرًا -حسب كلامه- ولكنه فضَّل في النهاية أن يرحل عنهم؛ هداه تفكيره إلى هذه القرية التي تعرَّف على أهلها منذ فترة ليست بالطويلة، حيث كان ينقل لهم بعض الأغراض والبضائع من حين لآخر. رحَّب به أهل القرية وأسكنوه في بيت طيني قديم بعد أن أعيدت تهيئته للسكن، كان في القرية عدة بساتين وبعض الركبان المزروعة بالبرسيم وبعض الخضراوات، حوت البساتين أنواع الأشجار مثل الرمان، والخوخ، والحماط، والعنب، والتفاح، وشجرة تفاح سكري واحدة أثخنها الصغار نهبًا.

عندما حضر عم متروك للقرية أحضر معه تفاحة من نوع آخر؛ أبهرت الصغير قبل الكبير بجمالها ودماثة أخلاقها، ولكنتها التي كانت غريبة على الأسماع؛ إنها زوجته التي تقطر بياضًا رغم أنه يقطر سمارا، والتي بسببها خرج من الطائف  فأصبح للقرية موسمًا مستمرًّا للتفاح خلال كل فصول السنة.

كان عم متروك متعدد المواهب فهو إضافة إلى أنه سائق ماهر يملك وانيتا، كان يعزف على آلة العود ويغني، ولكنه كان سيئ الحفظ؛ فكثيرًا ما كان ينسى الكلمات ويكمل الأغنية بهمهمات وغمغمات وهو ينقل بصره من واحد لآخر وييبتسم، كما أنه كان يعشق الصيد؛ فكانت بندقيته الشوزن لا تفارق سيارته.  كانت القرية تقضي أمسياتها خاصة في الأفراح والأعياد وليالي الصيف في أحاديث السمر التي لا تخلو من الحديث عن الفصول والنجوم والزراعة والمطر وغيرها من المواضيع، ثم لا بأس أن يكون هناك بعد العشاء رقصة قصيمي أو حيوما أو مجالسي. بعد مجيئ عم متروك أصبح العود والطرب هو المطلب الجماهيري رقم واحد، وأصبح الجميع يسهرون أكثر من المعتاد، قبل حضوره للقرية كانت الحمير هي وسيلة نقل الركاب والبضائع وإيصالها إلى الطائف، ولكن ونيت عم متروك قضى على حضارة الحمير واشتد التنافس بين أبناء القرية على من يركب في الغمارة بجانب عم متروك، قَلَبَ عم متروك القرية رأسًا على عقب بعد انضمامه لها، أصبحت أكثر حركة وانفتاحًا وإنتاجًا، وأصبح لنا نحن الصغار عالمًا جديدًا لوَّن حياتنا بألوان الغِناء والصيد والجمال. اندمج عم متروك في القرية وصار جزءًا مهمًّا من مكوناتها، يفرح لفرحها ويتألم لألمها. بعد عدة شهور بنى عم متروك له بيتًا صغيرًا غير بعيد عن بيته الأول، كبر الصغار وكبر عم متروك وكبرت تفاحته وتفرق عنه أبناؤه ولم يعد للعود ولا للشوزن ولا للونيت عنده أي اهتمام، وذات مساء بارد والريح تعصف بشده محدثة صفيرًا حزينًا، حمل عم متروك متاعه وأهله في ونيته الذي بالكاد صار يتحرك رغم الإصلاحات التي خضع لها، عاد من حيث أتى، إلى حيه القديم حي الشرقية، ولم يعد يزور القرية حتى مات.

—————————————————

من مجموعتي القصصية (سوق القفاصه)

بقلم/ أبو هاشم حامد الشريف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88