زوايا وأقلاممواسم الخير

الحجُّ … تجلي السيرة الإبراهيمية

خلف سرحان القرشي

سيدنا إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، فكلُّ الأنبياء عليهم السلام أو جلُّهم من عَقِبِه ومن ذريته، خليل الله عزَّ وجلَّ، نال شرفًا وكرامةً من الله عزَّ وجلَّ لم ينل أعظم منها –فيما أعلم– من الأنبياء سوى سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، وتبعًا للغريزة الإنسانية فإن الشخص في الأعم والأغلب لا يحب أن يتفوق عليه أحدٌ غير أبنائه، وأحسب أنّ ما ناله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام من كراماتٍ، وشرفٍ ومكانةٍ عند ربِّه هي موضع فرحٍ وابتهاجٍ وغبطةٍ من قبل سيدنا إبراهيم عليه السلام.

الصلاة -الركن الثاني من الإسلام- لا يذكر فيها بشكلٍ دائمٍ ومتكررٍ اسم نبي بعد اسم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام سوى اسم سيدنا (إبراهيم)؛ فصفة الصلاة على النبي (التشهد الثاني) يقال فيها: “اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم”.

أمَّا الحجُّ فهو المناسبة الأمثل لتجلي سيرة أبي الأنبياء؟ كيف ذلك؟

الحجُّ يكون لبيت الله الحرام، وباني هذا البيت هو إبراهيم عليه السلام بأمرٍ من الله عزَّ وجلَّ، وأداء الحج ما هو إلا استجابةٌ لأمرٍ إلهيٍّ، وإبراهيم عليه السلام هو من نال شرف وفخر تبليغ هذا الأمر للكون بأسره، وتكفل الله عزَّ وجلَّ بإيصال الصوت بعد أن قال إبراهيم: “وما يبلغ صوتي؟”، حتى ليقال إن صوت إبراهيم عليه السلام بلغ -بكيفيةٍ يعلمها الله تعالى- كلَّ حجرٍ وشجرٍ ومدَّرٍ، وكلَّ من حجَّ ويحجُّ، وسوف يحجُّ إلى قيام الساعة.

الحجُّاج في طوافهم بالبيت يتذكرون ويذكرون أباهم إبراهيم عليه السلام. كيف لا، ومقامه عليه السلام قريبٌ منهم، وقواعد البيت التي رفعها مع ابنه إسماعيل ماثلةٌ أمام أعينهم، وقد استوت عليها الكعبة المشرفة؟

الحجَّاج والمعتمرون يسعون بين جبلي الصفا والمروة سبعة أشواطٍ في استحضار لجزءٍ له دلالته وعمقه من سيرة زوج إبراهيم عليه السلام أمُّنا (هاجر) عندما كانت تسعى بين تلكما الجبلين بحثًا عن أثرٍ لماءٍ تسقي بها رضيعها إسماعيل، وهي إذ تسعى بين الجبلين، فهي تسعى أيضًا بين أملٍ بالله وثقةٍ أنه لن يضيعهما، وبين شفقةٍ وحنوٍّ وخوف الأم الغريزي والفطري على ابنها، وسيرة عائلة الإنسان، زوجه وبنيه هي جزءٌ من سيرته وتوسيعٌ لقِيمها، وامتدادٌ لآثارها.

وبعد أن يؤدي الحاج نسكي الحجِّ: الوقوف في(عرفات) والمبيت بــ (مزدلفة) وما يكون فيهما من صلواتٍ وأدعيةٍ وذكرٍ لا تخلو من اسم سيدنا إبراهيم بشكلٍ أو بآخرٍ، يحط رحاله في (مِنى)، وفيها يتم ذبح الهدي والفدية والأضاحي، وفي ذلك استلهامٌ لموقفٍ عصيبٍ مرَّ به سيدنا إبراهيم عليه السلام، وأعني بذلك الأمر الإلهي من خلال رؤيا رآها بذبح فلذة كبده؛ ابنه إسماعيل قربانًا لله، فنجَّى الله الابن الطائع المطيع في اللحظة الحاسمة، وفداه بذبحٍ عظيمٍ. ودرامية المشهد الحقَّة متمثلةً في حدَّ الأب للسكين، وتلِّه لجبين ابنه، استعدادًا لذبحه، مع كثافة المشاعر، وما اختلج بنفسيهما -أبًا وابنًا- من ألمٍ ومرارةٍ، وحيرةٍ وترددٍ بين نداءات غريزة الأبوّة وتنفيذ الأمر الإلهي، بلاءٌ عظيمٌ، وابتلاءٌ رهيبٌ حسماه وتجاوزاه بفضل الله تعالى، ثمَّ بقوة إيمانهما. وكان نجاحهما عليهما السلام في اجتيازه نعمةٌ أرادها الله لهما وللإنسانية جمعاء إلى يوم الدين، تتمثل في أنَّ تلك اللحظة الخالدة التي افتدى الله سبحانه وتعالى فيها إسماعيل بكبشٍ عظيمٍ كانت بمثابة إعلانٍ هامٍ، وبلاغٍ ما بعده من بلاغ أنَّ اللَّه من رحمته ولطفه بعباده لا يأمر ولا يقبل ولا يرضى بأيِّ قرابين بشريةٍ تقدم له البتَّة، وهو أمرٌ كان شائعًا لدى الناس ما أنزل الله به من سلطانٍ.

الرمي للجمرات ذكرى وتذكيرٌ للحجاج خاصةً، وللموحدين والمسلمين عامةً، بأن عدوهم الحقيقي في كلِّ زمانٍ ومكانٍ هو الشيطان الرجيم والذي عَرَضَ لسيدنا ابراهيم ثلاث مراتٍ، فقام برجمه في مواقع الجمرات الثلاث.

أليس الحجُّ بعد هذا كلِّه هو سيرة إبراهيم عليه السلام؟ وكونه ركنٌ في الإسلام، وفريضةٌ على كل مسلمٍ يستطيع إليه سبيلًا، ففي ذلك استرجاعٌ لتلك السيرة، واستلهامٌ لسِمَاتِهَا الفريدة، وحتى قيام الساعة. ولهذا الأمر دلالته وعمقه، وينطوي على تذكيرٍ للأجيال بأبيهم الموحد، وجهاده للشيطان، ناهيك عن تحكيمه للعقل من خلال تنقله حقيقةً أو مجازًا بين عبادة كوكبٍ وثانٍ وثالثٍ؛ لتأتي عبادته لله وحده عن يقينٍ واقتناعٍ تامين كاملين، قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ۚ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ ۚ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ. وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).

إنَّ عقلانية إبراهيم عليه السلام، ومنطقيته، ورغبته في ألَّا يكون إيمانه بالله كإيمان العجائز فقط -رغم جماله- نجدها متمثلةً أيضًا في سؤاله الله عزَّ وجلَّ أن يريه كيف يحي الموتى، ليطمئن قلبه.. قال تعالى: (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

أنهي مقالي هذا عزيز القارئ بالسؤال:

لماذا أكرم الله عز وجل سيدنا إبراهيم بهذا الشرف دون غيره من الأنبياء؟

وللإجابة عليه أقول وبالله العون والتوفيق والسداد:

ابتداءً ذلك الفضل من الله: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).

وثانيًا: لكونه عليه السلام أبو الأنبياء؛ فسبق بذلك غيره بحكمةٍ وتدبيرٍ منه عزَّ وجلَّ.

وثالثًا: لامتثاله الفوري لأوامر ربِّه، ومنها الهجرة وترك ابنه وزوجه بوادٍ غير ذي زرعٍ مجاهدًا وكابحًا بذلك غريزة الأب والزوج تجاه ابنه وزوجه.

ورابعًا: لأنه أواهٌ وحليمٌ جادل ربَّه في قوم لوط بمجرد أن ذهب عنه الروع.

وخامسًا: لأنه تجاوز بتوفيق الله الامتحان الصعب عندما تلّ ابنه للجبين ليذبحه.

وسادسًا: لأنه جاهد الشيطان ورجَمه.

وسابعًا: لأنَّه قبل ذلك حطَّم الأصنام، ولم يُقِم في سبيل (التوحيد) اعتبارًا لصلته بـــــــ (أزر)؛ أبيه أو عمِّه، كما أنه لم يلق بالًا لما قد يلحقه وألحقه به قومه فعلًا من سوء عذاب، وهل ثمَّة عذابٌ أشدُّ من الحرق بالنار؟

تلك أسبابٌ وغيرها أُخر، هيأت لإبراهيم وسيرته نيل فضل الحضور والخلود حتى قيام الساعة.

ما أحرانا وأحوجنا أن نستلهم من تلك السيرة عبقها في كلِّ صلاةٍ، وفي كلِّ عمرةٍ ومع كلِّ حجٍّ، لينعكس عطرها الزَاكي الزكيُّ على المسلمين في جوانب كثيرةٍ لعلَّ منها تعميق حقيقة التوحيد، والانتصار على الشيطان، ونزعات النفس وضعفها وعجزها، وكذلك التعلق بالله سبحانه وتعالى، والثّقة به معينًا وناصرًا وحاميًا لكلِّ موحدٍ ومسلمٍ على وجه هذه البسيطة.

———————————

بقلم الكاتب والأديب/ خلف بن سرحان القرشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88