إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

عرى أنثى

كريح رخاء تجري حيث أصاب؛ تسحبه إليها، وتنحني إليه في سكون حالم لتؤجج رغبته في تحديها؛ في تبليلها.

تداف إليه بتورمها منه، ثم تخرج منه لتعود إليه، بائسة من دونه، عارية من حنانه، خائبة ومتجهمة، تلتحف صبرها العصي، وتتنهد لآلاف المرات على مرأى منه.

خائفة من خسرانه وهجرانه لها، وخوفًا من أن تخسره عاشت عمرها مرتجفة بجواره تطلب الأمن منه فلا تجد، إنها مكبلة بحبه العمر كله.

كيف تمكن رجل من هجر فراشة بزهو الربيع تهرع إليه تارة وتحبو تارة أخرى، هو يحبها وقتما يشاء، وينثرها وقتما يشاء.

هي أنثاه التي اختارها بمحض ارادته، بل هام بحبها.

إنه أناني كباقي الرجال، لكنه أناني أكثر منهم، ونرجسي يعشق ذاته، بل يعبدها.

كادت أن تكفر لحظة اعتناقها له حبيبًا وعمرًا، وأوشكت أن تعبده في محراب حياتها.

تمكن بصمته من إغراقها، وكانت تغرق لوحدها في بحره، ولا أحد استنصر لرغبتها في الفكاك من قبضته، من سطوته، ومن حضوره.

لم تكن نيتها صادقة في التخلي عنه، والابتعاد عن فكرة مكوثه في أعماقها.

غرقت وانتهت وفات الأوان لإنقاذها.

لم يطاوعها قلبها، قد أشرع كل شيء له، وغاص في أدغاله لينتهي بها إلى وحله.

فمن ذا الذي يمد يده لينقذها؟

ما من قشة تشبثت بها وهي تغرق لتنجو فما نجت، كأنما شاءت أن تغرق.

إنها تغمض ما تبقى من عمرها في بحره، وفي وهمه.

قد مدت روحها واستسلمت للموت في أعماقه، ثم أوشكت أن تنهض من غفوتها، غمرها دمعها، لم تألف عمق بحره، فقط حاولت أن تتأقلم، أن تعيش كائنًا بحريًّا، يتحمل الملوحة، وانتفاء الأوكسجين وتغلق على شمسها، لا ترى النور في عتمة أبدية ستعيش حتمًا ما تبقى من مشاعرها ومن غربتها.

لأجله فقط غامرت، كانت تراوده بتغليق مسارب غربته وتلهيه عنها، وغيرت صورتها، أصبحت تعشق كل ما يحب ويهوى، نعم.. غيرت كل ميولها وتصرفاتها، لكنها فشلت؛ قد جرها قمعه لها لدهاليز حالكة، فلم تعد كعادتها تعشق الزهور بل باتت تتوق إلى القبور، كما في مقبرة قلبه الميت، تتمنى الموت، وانتهاء عذابها به، تجرب الانتحار به، في كل مرة يقتلها بصمته، وينفيها بتعريتها من كل جميل، ووأدها باللا مبالاة باحتياجاتها له.

أصبحت تعشق كل الألوان الداكنة، وترتدي الأسود وكل مشتقاته.

وها هي ذي خالية منه، تمشي بروع في زهرة عمرها؛ خائفة من أن تخسره، أو يخسرها، فالحب أوله لذة بعناء، وأوسطه وهم بلا رخاء، وآخره سقم بلا دواء.

وبعد الزواج بات الحب أمرا عاديًا لديه، بل بائسًا، وها هو ذا مفرغ منها تجاوزها إلى صمته المخيف، وظلامه الدامس.

والحب الحقيقي يقبع في الروايات، ويركن في بعض الأفلام المتفائلة به، وتمجده القصائد الرومانسية وتحتفي به، لكن في الواقع لا وجود له.

فبالنسبة له.. الحب في مجتمع شرقي يعد عبثًا، خاصة بعد الزواج، فلذته تستباح، عندما تنتهك الأجساد، وتتعرى الأنثى في صمت من كل عذريتها، وتتجرد من حرمتها، بعدها تصبح ملكًا لزوجها وجب عليها طاعته والإذعان له.

انتهى زمن الحب وعذريته، بعدما سلبت حرية المرأة ووثقت وثيقة عبوديتها له.

وها هو ذا مفرغ منها تجاوزها إلى صمته المخيف، وظلامه الدامس.

وأوقد نارها ليتركها تحترق وحدها، كانت تود لو يحترق معها، أو على الأقل يشاركها طقوس الاحتراق، بل يبللها لحظة احتراقها كي تبرد ثم تنطفئ.

لكنه لخوفه من شرارات احتراقها أغلق عليها ليتركها تفنى بمفردها.

لم تكن حربها خدعة، ولم تكن بإرادتها، هو من بدأ الحرب بصمته، وهو من بإمكانه إنهاؤها.

سكتت وهو يتكلم، كانت تخطط معه في صمت لشن حربها الضروس عليه.

كان الصمت قائدهما، وكان يتفاوض معها على كيفية قتله، وإبادته.

وحدها ثورته.. لكنه كان يولي اهتمامًا لثوراته فقط، معها وقبل أن تأتي.

فليس لها ثورة في رأيه؛ فهي قطته اللطيفة البائسة التي ليس لها مخالب ولا تعض.

هي فقط تمرغ وجهها على راحته، فيدحضها بقوته، ثم يدنيها وقتما يريد.

وهي دميته الجميلة التي يداعبها قبل أن ينام.

وهي قشة يحركها كما الرياح كيفما يشاء.

لم يدرك أنه أول من علمها كيف تكشر أنيابها له، وهي التي كانت تبتسم طوال الوقت لأجله، وتخفي عبوسها منه، لم يكن يعبأ بها، ولا بما تقوم به من أجله.

كما لم يدرك أنه أوقد فتيل ثورتها ليتركها وحدها في ميدان المعركة.

لم يدرك كل ذلك إلا بعدما صمت.

كيف أوقد نيرانها، ثورتها، رغبتها به، غوايتها، ثم توارى؟ لمن يتركها؟

الكاتبة الجزائرية/ د.فتيحة رحمون

مقالات ذات صلة

‫75 تعليقات

  1. تحية معطرة بالورد أهديها إليكِ
    كم يسعدني دوما ان اري هذا النزف الرائع الجميل
    فاعجز عن شكر على كل ما تخطه أناملكِ الذهبيه
    وما يتدفق من حبركِ العطر
    فيض من المشاعر والاحاسيس الجميله ..

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى