إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

الجساس “جبيـّر” دراسة نفسية تحليلية

علي عويض الأزوري

تعلمت من أستاذي الدكتور/ مختار شودري، عندما كنت في الكلية عام 1404 وكان يدرسنا مقدمة في الأدب، أن أكتب ملاحظات عند قراءتي أو أسئلة. كنت أذهب إلى بيته بناءً على رغبته لنتناقش في بعض القصص القصيرة التي كان يقوم بتدريسها لنا. كان يهديني كتبًا في النقد والرواية ومجموعات قصصية، وكنت أجد علامات استفهام أو مفردات أو تعليقات في بعض الصفحات، وعندما سألته، أجابني: عندما تقرأ شيئًا قد يثير لديك بعض الأسئلة، أو تترك تعليقًا على ما قرأت وقد تعود بعد فترة من الزمن وتجد أن أفكارك تغيرت أيضًا. هذا ما حدث معي ومع رواية الجساس. هناك معانٍ خفية، ومعانٍ ظاهرة جلية.

كتبت بعض الملاحظات ووضعت كثيرًا من علامات الاستفهام على صفحات الرواية، وخزنت أشياء في خلايا ذاكرتي الصدئة لأعود إليها في يوم.

“امتنع أبي عن الاعتراف بي! وأسمتني أمي جبيّر”

ومنذ ولادتي وهي تنتظر مني تعويضًا ما، وحين يئِست تخلّت عني وأطلقتني للعالم.”

“ها أنا جبيـّر” / هو بطل القصة أوprotagonist   الجانب الذكوري في ذلك المفهوم وتشاركه “حسنة” الجانب الأنثوي.

ولدت بمكة المكرمة، من نسل أحد وجهاء مكة، ومن رحم جاريته من العبيد.

“فوق إشاحة وجهه وهو يردد” أعوذ بالله، ولد رقيق!”

وأيقنت والدتي أن لا جدوى من استجدائه، وأدركتْ دون عناء أن حياتها انتهت بعد أن أعتقها من خدمته، ثم أمر بوسم معصمي بوسم بهائمه وكأنني مخلوق مسخ وبشكل قاسٍ ومتوحش.”

الملاحظة الأولى: اسم الرواية

لو كانت جساس لكان اسما نكرة

لكن عند إضافة (ال) التعريف تحول من اسم إلى صفة وهذا يعطي بُعدًا آخر.

– تُصنَّف الرواية على أنها تاريخية وصفية Historical descriptive

– حرمان الطفل من عائلته يقلل من احترامه لذاته، و”جبيـّر” لعدم اعتراف أبيه به وضع وصمة عار في حياته التي لم تكن من اختياره. بدأت تلك الوصمة والعار من كلام أبيه: ” أعوذ بالله، ولد رقيق!”، ووسم البهائم في معصمه يضاعف من المعاناة النفسية فهو ليس له حقوق الإنسان ويتساوى مع الحيوانات مع أنه وُلد من جينات أبيه.

الشعور بالخوف والقلق The feeling of Fear and Anxiety

– الحرمان المبكر من الأم يسبب ضعف الثقة في النفس والثقة في المحيط الذي يعيش به، بالإضافة إلى ذلك، تتجلى أعراض القلق في قلق الانفصال والخوف المفرط.

“أخاف الشوارع المكتظة بالمتخاصمين، أخاف الهزيمة في معركة الحي، أخاف من الغرباء، أخاف أن يسرقوا حياتي الصغيرة.”

يكبر ذلك الخوف عندما يأخذه أبو عوض وعائلته إلى نجد: “لا أعلم في أي منفى سيزج بي وأي أرض ستطؤها قدماي”.

يتأكد الخوف عندما يصل إلى منازل “الجساس” وتقفز “حسنة” (بطلة القصة أو الجانب الأنثوي في البطولة): من أعلى الجمل وأخذت تحفزه للقفز قائلة: يا الله نط يا خواف.. يا خويف لو كان فيك خير نط.. قفز أخيرًا رغم اعترافه بأنه يخاف من الأماكن المرتفعة.

تبدد الشخصية والانفصال عن الواقع

يحدث اضطراب تبدد الشخصية والانفصال عن الواقع عندما يشعر الشخص دائمًا أو في كثير من الأحيان بأنه يشاهد نفسه من خارج جسمه، أو أن الأشياء من حوله غير حقيقية أو كلا الشعورين. قد يكون الشعور بتبدد الشخصية والانفصال عن الواقع مزعجًا للغاية. وقد يشعر الشخص بأنه يعيش في حلم.

يبدو ذلك في حديث جبيّر بعد أن وسموا معصمه وهو طفل رضيع. كان يشاهد نفسه من خارج جسمه ويصف الأحداث بتركيز ودقة. كيف كانت أمه تسير به في شوارع مكة لتجد ملجأً لهما، وحين يصف الجهد المضاعف الذي بذلته أمه في سبيل حمايته وعملها في سقيا البيوت في الجبال. يرى أمه من الخارج وهو ملتصق بظهرها وتمكنه تلك الرؤية من معايشة الأحداث اليومية التي كانت تسود المجتمع المكي في تلك الحقبة.

 جبيّر والاغتراب النفسي

من خلال علاقة الطفل بأمه يتخذ لنفسه مكانا وسط الجماعة التي تلزمه بمجموعة من الحقوق والواجبات وأكد “فرويد”) FREUD.S()1939-1856) في أبحاثه على أن الأب يلعب دورا كبيرا في إدماج العناصر الاجتماعية في حياة الطفل أثناء طفولته وتطبيعه اجتماعيًّا، والأم تُشْعِرُ طفلَها بالحب الكافي منذ طفولته المبكــرة بتدعيـــم علاقـة المداعبـة والمصاحبـة، وهي في اتصــال دائـم معه حتى تبعث أجواء الاستقرار النفسـي في طفلـها.

بدأ هذا الشعور النفسي بالاغتراب مع الأم حينما طردها سيدها من البيت، وبدأ اغتراب آخر مع (جبير) عندما تركته أمه في الحرم، وعندما شاهد “حسنة” تنهال على جدتها “خشيفه” بالقبلات وأخذ يحدث نفسه أن فراقه لأمه لم يترك فقط تلويحة وداع، بل وطنًا ميتًا ومنفى.

عزز ذلك اضطراب التنشئة الاجتماعية، وعدم الاستقرار السياسي أو الاستقرار المجتمعي في مكة في تلك الفترة، والحرمان من رعاية الوالدين، وضاعف ذلك شعوره بأنه مختلف فهو ابن غير معترف به، وهناك وسم في معصمه يساوي بينه وبين الحيوان مما أفقده شعوره بالآدمية والإنسانية.

أما حاجته للحب أفصح عنها عندما قرر أبو عوض أن يأخذه معه من مكة إلى نجد ” ربما أحبني؟!، وحاول أن يعزز ذلك الشعور عندما وعدته بالدفاع عنه ومواجهة كل من يتكلم عنه أو يحاول النيل منه “ربما أحبتني أيضا!.

الشعور بالدونية/ عقدة النقص Inferiority Complex

 مما يسبب ذلك الشعور أو العقدة: المساوئ الاجتماعية والتمييز، الأسرة أو العرق المزعوم، أو الجنس، أو التوجه الجنسي، أو الوضع الاقتصادي، أو الدين.

أحس (جبير) بذلك بسبب لون بشرته السوداء عند ولادته ووالده يردد “أعوذ بالله، ولد رقيق!”

تشبع بذلك الشعور عندما تخلت عنه أمه في المسجد الحرام ووجد نفسه على الأرض” قطعة سوداء صغيرة متسخة أُداس بالأقدام”.

تضخم الإحساس بذلك عندما قربت حسنة إصبعها من وجهه ومسحت خده ظنا منها أن لونه الأسود ما هو إلا أوساخ تستطيع إزالتها. ترسخ أكثر عندما وصلوا إلى ديار (الجساس) وأقبل نحوه وحسنة أبناء البادية ويسألون عن “العبد” اللي جابته أمك. كان أبناء القبيلة ينظرون إليه ويتهامسون ويضحكون بسبب اختلافه عنهم؛ لا شكلا بل لونا.

عانى (جبير) من ذلك وهو صغير السن في السنوات الأولى من حياته وحتى شب وترعرع في ديار الجساس، وربما تجاوز ذلك في بعض المراحل. لكن عاوده ذلك الشعور وآلمه وأزعجه ووسمه (نفسيًّا) مثل الوسم الذي في يده عندما وصل إلى الدرعية وعمل مع (إبراهيم) الذي أنقذه جبير من سطوة اللصوص قبل ذلك. كانت زوجة إبراهيم العمة (لطيفة) تُنادى بالربعية وتعمل في تجهيز ملابس العروس في مناسبات الزواج. طلبت منه أن يساعدها في حمل الصُّرَر من الأغراض الكبيرة. وقف مترددا لأنه في داخله كان يظن أنه فارس ولا يقوم بمثل هذه الأعمال. تكرر الوضع بضعة أيام متوالية وكان يتصنع الهدوء لكنه في قرارة نفسه يشعر بالرق في كل شيء: في طريقة نظراتهم حينما أقف وراء العمة أتبعها، في مجالس النساء وأنا حامل صرر ملابسهن، في قرقعة فناجين القهوة وضحكاتهم، في تزاحم الأعمال بالمطبخ، وفي كل مكان لم يترك لي سوى الذل والمهانة.

الشعور بالوحدة Loneliness

يتولد هذا الشعور عندما يفقد الشخص أحد أبويه أو كليهما فينتج عن ذلك شعور بالعزلة isolation، ويكثر بين كبار السن في كل المجتمعات خاصة الحديثة.

بدأ يجتاح جبير الإحساس بالوحدة عندما تخلت عنه أمه ورأى أن العالم يصغر حجمه وردد بينه وبين نفسه:” أنا وحدي.. وحدي الآن.

تزايد عندما سأله أبو عوض عن حاله فأجاب أنه بخير، لكن بينه وبين ذاته كان يشعر أنه ممزق:” حالي وأنا هنا؟ بالمنتصف؟ وفي هذا الفراغ؟ وبهذا القلق؟”

تشارك ذلك مع جدة حسنة عندما طلبت منه أن يرافقها لتجلس تحت ظل شجرة السدر الشائكة. لا تعني الوحدة أن يعيش الإنسان في صومعة في الصحراء، لكن أن يعيش وسط أناس لا يحس بالانتماء لهم، أو أصبح هناك فجوة بينه ومن حوله.

هناك مفاهيم تتعلق بعلم النفس والفلسفة لشخصيات الرواية وتناول كل شخصية سيأخذ الكثير من الوقت والجهد، لكنني حاولت أن أتعرض بدون إطالة لبعض المفاهيم للشخصية الرئيسية في الرواية “جبير.”

أما الكاتبة:

– لديها ذاكرة تصويرية جميلة وسردها ووصفها للأشياء الصغيرة يجذب القارئ ويجد نفسه يتفاعل مع الأحداث. هذا ما يسمى incidents that leads to the climax أحداث صغيرة تتجمع وتتفاعل حتى تصل إلى الذروة.

– لديها قدرة على تطويع الكلمات وتفجيرها لتخلق صورًا محسوسة

– أعجبني أنها استخدمت البعد الثالث للكلمات فأضفت جمالا على الأسلوب والصور

– تهتم الكاتبة كثيرا بما يسمى stylistics علم الأساليب وهو ما أشرت له أعلاه

بقلم/ علي عويض الأزوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى