إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

الجساس “أبو عوض” دراسة نفسية تحليلية (2)

علي عويض الأزوري

تنقسم الشخصيات في الروايات من ناحية البناء النفسي إلى:

– بسيطة

– مركبة

– معقدة

في هذه الدراسة سأتحدث عن (أبو عوض) شيخ قبيلة الجساس الذي أنقذ (جبيـّر) من الموت تحت أقدام الحجاج والزائرين لبيت الله الحرام، وأخبر (جبيّر) أنه سيكون له الأب عوضًا عن أبيه الذي نبذه ورفض الاعتراف به.

تصنف شخصية أبو عوض على أنها شخصية مركبة والسبب لأنه يعاني من الازدواجية والتناقض.

في الأدب يُشير مصطلح ازدواجية الشخصية (بالإنجليزية: double gothic) ‏ إلى نوعٍ من الروايات التي تتناول شخصية ذات طبيعتين. غالبًا ما تكونُ هذه الشخصيّة بطلة الرواية أو على الأقل شخصية مهمة وتلعبُ دورًا مهمًا في القصّة. يُركّز هذا المفهوم على التناقض الكامل بين الخير والشر وقد برزَ في عددٍ من الروايات بما في ذلك قضية الدكتور جيكل والسيد هايد الغريبة لروبرت لويس ستيفنسون أو هيثكيلف في رواية مرتفعات ويذرنغ. * (ويكيبيديا).

وظهر مفهوم المعايير المزدوجة أو الكيل بمكيالين وهو سياسي صيغ بهيئته الحديثة عام 1912، ويشير إلى أي مجموعة من المبادئ التي تتضمن أحكامًا مختلفة لمجموعة من الناس بالمقارنة مع مجموعة أخرى.

الطبيب الفرنسي “جانيه” هو أول من وصف حالة ازدواجية الشخصية عام 1889، وربطها ربطًا متينًا بالصدمة النفسية في مرحلة الطفولة. منذ بضع سنوات، أعلن مركز البحوث King’s College London-في بريطانيا عن دراسة جديدة حول موضوع ازدواجية الشخصية وتعدّد الشخصيات عند الإنسان. اعتبرت هذه الدراسة أنّ «صدمة» قوية قد عاشها الإنسان منذ طفولته، قد تُسبّب بظهور شخصية ثانية عنده.

اضطراب تعدُّد الشخصيات Multiple Personality Disorder)

ما يقع من الفرد من أطروحات وأفكار تناقض أفعاله وسلوكيات لذلك، يكون لدى هؤلاء الأشخاص اثنتان أو أكثر من الهويَّات، وثغرات في ذاكرتهم عن الأحداث اليوميَّة والمعلومات الشخصية المهمَّة والأحداث المؤلمة أو المرهقة، فضلاً عن عددٍ من الأَعرَاض الأخرى، بما في ذلك الاكتئابُ والقلق.

– عندما أخذ أبو عوض جبير للبحث عن أمه وعن بيته وقابل الدلال الذي يبيع الرقيق وتحدث معه عن خصي الصبيان.

“نظر إليهم مشدوها يسأل “الدلال” والدم يغلي في عروقه”:

– هل أنت مسلم؟

ويكرر السؤال عن هوية الدلال الدينية إن كان مسلمًا أم غير ذلك، وعندما أجابه الدلال بالإيجاب بدأ في تأنيبه وألقى على أسماعه محاضرة مختصرة دينية المحتوى:

“إذن كيف تفعل ما حرمه الإسلام، الإسلام يحرم أن تخصي الإنسان، هذا ظلم عظيم واعتداء على النفس، الإسلام جاء ليكرم الإنسان.. وأنت تسيء للبشرية”.

يعكس ما قاله أبو عوض عن إدراك وفهم لمعاني وتعاليم الإسلام العميقة والأساسية، لكنه ينقض كل ذلك عندما تمرض ابنته شكيمة، فيهيم في الصحاري لأيام بحثًا عمن يعالجها. انقطعت أخباره لعدة أيام، وعندما بحثوا عنه وجدوه في طريقهم مع عرافة عمياء آتية من الشمال وقد ذاع صيتها بين القبائل.

ترك أبو عوض اللجوء إلى الله وذهب إلى مشعوذة لتجد علاجًا لابنته المريضة، ونفذ ما أملته عليه من شعوذة أملا في أن تشفى وتعود (شكيمة) إلى حالتها الطبيعية.

ربما ألتمس له عذرًا اجتماعيًّا ينبع من الحالة الذهنية أو النفسية التي كان يعاني منها، لكن ليس دينيًّا.

ينسف أبو عوض تلك المفاهيم التي تحدث بها مع الدلال عندما نوى أن يذهب مع فرسان القبيلة لغزو جديد؛ طلبًا للغنائم في عام أصابه القحط والجفاف.

كان ذلك ديدن القبائل القيام بالغزو قبل توحيد المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز -يرحمه الله- لكن على من؟

يكون الغزو على قبائل أخرى تتظاهر بنفس مفاهيم أبي عوض، أي أنها تُظهِر الإسلامَ كلامًا ولكن الأفعال تناقض أقوالهم، وذلك ما أسميه (دين الأعراب). يكثر القتل والسلب وترويع الآمنين وتخويفهم في سبيل الظفر بالغنيمة والتباهي في مجالسهم بما قاموا به على أنها شجاعة ورجولة، وينظم الشعراء القصائد التي تمجد تلك الأفعال وتخلدها.

“انا والدك” هذا ما قاله أبو عوض لجبيّر، وسأل:” أنا من؟” ليتأكد أن جبيّر رضي أن يكون أبو عوض والده؛ امتلأ رضًا عندما رد جبيّر: أنت والدي.

عندما جهز مجلسه لاستقبال أفراد قبيلته بعد عودته سالمًا غانمًا من مكة، وعندما ساد الهرج والمرج بين أفراد القبيلة عن هوية جبيّر قال أبو عوض: “هذا بمثابة ولدي وما جبت لكم صبي تشغلونه.” لتقطع جهيزة قول كل خطيب.

كان ذلك كلامًا جميلًا وينم عن نية صادقة فيما ذهب إليه أبو عوض، لكن الأفعال تختلف جذريًّا وكليًّا عن الأقوال.

عندما خُطبت جميلة بنت الشيخ أبو عوض وقام بتجهيز المجلس لاستقبال الضيوف أطلت “عطايا من شق الخيمة تنادي:

جبير يقول أبوي عجل عشان تسلخ الشياء وتضبط الدلال والمطرح للضيوف”.

يتكرر ذلك المشهد عندما يجلس أبو عوض في صدر المجلس ويأمر جبيّر بإشعال الحطب المركون قرب الخيمة، وإعداد القهوة.

ويتأزم المشهد عندما تُـتهم حسنة بأن طايل انتهك عرضها ويقوم جبيّر بالدفاع عنها فيسدد له أبو عوض ضربة على صدره بمقبض سيفه؛ سقط على إثرها فاقدًا للوعي ومن ثم قام بربطه في حظيرة الأغنام.

تحول الابن إلى خادم وصبي، بينما المتعارف عليه أن شيخ القبيلة يكون عنده خادم يقوم على شؤون الذبح والسلخ، وجمع الحطب وإشعاله، وإعداد القهوة للشيخ ولأضيافه.

أسبابُ هذا الاضطراب؟

دراساتٌ نفسية وأبحاثٌ علمية ما زالت تُجرى في العديد من المختبرات النفسية لاكتشاف أسباب تعدّد الشخصيات وازدواجية الشخصية، إذ لم يتمّ التوصل بعد إلى الأسباب الحقيقية لظهورها، ولكنّ هناك نقاطًا أجمع عليها العلماء:

– أولا: معاناة المريض من طفولة كئيبة ومحزِنة، مع إيذاء جنسي وعدوانية جسدية ولفظية وصولًا إلى عدوانية نفسية.

– ثانيًا: أكدت دراسة في مركز البحوث King’s College London، ما قاله “جانيه”، أي إنّ أحد أسباب ظهور هذا الاضطراب قد يكون صدمةً قوية عايشها المصاب خلال طفولته.

– ثالثًا: عدم التكيّف مع الواقع، والهروب من تجربة مؤلمة وعدم القدرة على حلّ مشكلات استعصت على المريض وعدم تكيّفه مع نفسه يمكن أن تكون أسبابًا لازدواجية الشخصية.

فقد الشيخ أبو عوض والده وأخويه في الحروب التي كانت تتأجج بين القبائل إما طلبًا للثأر أو الحصول على الغنائم. تذكر الجدة (خشيفة) والدة الشيخ عوض أنه فقد أخويه عندما كانت حاملًا به في الشهر السابع، ثم فقد والده إثر ذلك عندما كان يطلب الثأر لولديه.

إنَّ وجود الأب يعني وجود الشخص الداعم والمشجع للطفل؛ الأمر الذي يُساعد على تنمية الثقة في نفسه، ويشكل شخصية الطفل في مراحله الأولية ومرحلة البلوغ. نشأ أبو عوض في كنف والدته بدون أب أو إخوة وهذا أثر في سلوكياته المتناقضة، وإضافة لذلك حلمه في أن تنجب زوجته له ولدا من صلبه ليعوضه عما فقده في حياته ضاعف مركب الازدواجية في شخصيته.

بقلم/ علي عويض الأزوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى