إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

قراءة تحليلية “قصةأمي ترضع عقربا”

علي عويض الأزوري

مـقـدمـة:

قصة أمي ترضع عقربا للكاتب الزميل والصديق العزيز الأستاذ/ خلف القرشي، تصنف على أنها من أدب وقصص السيرة الذاتية، تروي (جزءًا) من حياة الكاتب، وتحكي حدثا معينا في زمن معين مع محدودية الأشخاص الذين تدور حولهم أحداث القصة.

– الراوي والبطل protagonist والخصم أو الضد antagonist

راوي القصة: هو الشخص الأول first person narrator

البطل/ة: الأم

الخصم/ الضد: العقرب

عنوان القصة بداية من (أمي) يدل على أن الرواية أو السرد سيكون من الكاتب الذي سيوفر للقارئ الأحداث عن أمه.

الخصم أو الضد كائن صغير تصنف ضمن العناكب، ولها صفات وسلوكيات مثل أي كائن آخر، ووردت في الأساطير المصرية واليونانية. تمثل العقرب في القصة خصمًا ترك أثرًا وجرحًا بالغًا في ذاكرة ونفسية البطلة الأم لم يندمل مع مرور السنين.

العقرب وصفاتها وسلوكياتها في علم الأحياء ونواحي علمية وثقافية أخرى:

الغالبية العظمى من العقارب هي حيوانات غير اجتماعية ومنعزلة تتفاعل فقط عند الولادة أو أثناء المغازلة قبل التزاوج، وغالبًا ما يكونون عدوانيين جدًا لدرجة أنهم عادةً ما يُعتبرون “أكلة لحوم البشر المتأصلة”. ومع ذلك، فإن القليل منهم يظهرون سلوكًا اجتماعيًّا.

يظهر سلوك العقرب العدواني في محاولة الأنثى القضاء على الذكر بعد التزاوج ولدغه ثم أكله وجبة شهية، ولذا يحاول الذكر الهروب بعد انتهاء العملية(1).

قرأت قصة منذ زمن بعيد أن الضفدع رأى عقربا عند حافة جدول فسألها عن تواجدها هناك، قالت: أريد العبور إلى الضفة الأخرى.

عرض عليها الضفدع حملها واشترط بأن لا تقوم بلدغه فوعدته بأن لا تلدغه، حملها الضفدع على ظهره وفي منتصف المسافة لدغته، وبينما هما يغرقان قال لها الضفدع: لقد لدغتني وقد وعدتني؟ قالت: إنه طبعي وطبيعتي. It is my nature

يقول إيليا أبو ماضي من قصيدة: حب الأذية من طباع العقرب “العقرب هو رمز قوي يجسد بشكل عام موضوعات العاطفة والدفاع والتحول والموت. غالبًا ما يمثل جوهرها الناري ولغتها المميتة العاطفة والقوة، سواء كانت بناءة أو مدمرة. تعمل قدرة العقرب على حماية نفسه بمثابة تذكير قوي بالدفاع عن النفس والحدود الشخصية. علاوة على ذلك، نظرًا لقدراته الرائعة على البقاء على قيد الحياة وقدرته على التخلص من هيكله الخارجي وتجديده، فإنه غالبًا ما يرتبط بالتحول والتجديد. أدت لدغتها المميتة والقاتلة في كثير من الأحيان إلى ارتباطها بالموت والحياة الآخرة في العديد من الثقافات، مما يرمز إلى الطبيعة الدورية للحياة والبعث”.

في الأساطير يحتل العقرب مكانة ذات أهمية. في الأساطير المصرية القديمة، كان العقرب مقدسًا للإلهة سيركيت، التي كانت إلهًا للحماية وقيل إن لها سلطة على المخلوقات السامة. في الأسطورة اليونانية، يرتبط العقرب بالصياد أوريون بعد ادعائه المتبجح بأنه يستطيع قتل جميع الحيوانات على الأرض، أرسل غايا، الأم الأرض البدائية، عقربًا لقتله كدرس في التواضع. ومن ثم فإن العقرب في هذه الحكايات هو رمز للانتقام الإلهي والتواضع وحتمية القدر(2).

ذكر الراوي ذلك عندما لدغت العقرب الأم (قانون إلهي). هذا صحيح لكن لكل مخلوق على الأرض ميكانيكية دفاعية defense mechanism عند الإحساس بالخطر، وميكانيكا الدفاع الفطرية والغريزية عند العقرب هي اللدغ عند الإحساس بالخطر واللدغ عندما تريد قتل فريستها، ولدغ شريكها بعد انتهاء التزاوج.

(ترضع) الرمزية هنا والواقعية ربما أربطها بنهاية القصة عند الذهاب بالأخ عليوي لدفنه الذي افترض أن عقربا لدغته: (أجزم أن تلك العقرب لم تر أمي قبل ثلاث سنوات من إرضاعها العقرب، وهي تركض حاملةً روحها مع لهاثها لتلحق بجدي وأبي وهما يحملان أخي عليوي لدفنه في المقبرة المجاورة).

رؤية العقرب من قبل إرضاعها استدعت لدى الأم ذكرى أليمة وهي وفاة عليوي بلدغة عقرب (افتراضا) حسب ما فهمته من العبارة السابقة للراوي. إضافة لذلك استدعت أسطورة رسخت في ذهن الأم، أنه عند إرضاع العقرب تصبح اختا وليس أخا لأن الذكر يسمى عقربان.

هذا ما يسمى قانون التداعي أو الاستدعاء والمفهوم الأساسي للاستدعاء هو: إن تكرار أو تحفيز عنصر واحد في المجمع يميل إلى تذكر جميع العناصر الأخرى.

رأت الأم العقرب قبل ذلك اليوم الذي لُدغت فيه جوار الحظيرة ولأن الوقت فصل الشتاء وهو ما يكون بياتا شتويا للمخلوقات ذوات الدم البارد ومنها العقارب والثعابين، فهي تبحث عن أماكن دافئة مثل الشقوق بين الصخور أو في البيوت أو في الحظائر باحثة عن الدفء، وتسكن في النهار وتقل حركتها لأنها مخلوق ليلي nocturnal.

إنَّني أراها تدقق في جوار الحظيرة في مكان فيه صدوعٌ بين الصخور، وفي يدها عودٌ صغيرٌ تدخله في الصدوع، رأيتها تنحني بين الشقوق ونظرات عينيها على اتساعهما تمسح المسافة الضيِّقة بين الشقوق من الأعلى إلى الأسفل مرَّةً وبالعكس مرَّةً أخرى. فجأةً أبصرت عقربًا كبيرةً تطل برأسها من بين فتحتي صدعٍ هناك؛ تهللت أساريرها.

(تهللت أساريرها) تدل على أنها وجدت ضالتها، فالأم رأت العقرب وتمنت ألا تغادر إلى مكان آخر لتقوم بما كانت تؤمن به من إرضاع العقرب للمؤاخاة بينها وبين ما تبقى من أبنائها.

لا أعلم إذا كان الكاتب يرمز لشيء ما عند اختياره للعقرب (المؤنث) ولم يذكر العقربان (الذكر) في الاسم.

هناك أساطير في بعض الثقافات أن شرب الحليب للملدوغ يخفف من ألم اللدغة ومن سميتها والآثار المصاحبة لذلك وليست مبنية أساس علمي.  ترضع الأم العقرب لتصبح من العائلة ولا تؤذي ما تبقى من أولادها. فطرة الأم حماية أبنائها مما قد يصيبهم حتى لو كان الثمن حياتها.

يروي الكاتب الحدث بعد لدغ العقرب لأمه:

لذا تخيلت أمِّي لحظتها تحدث العقرب:

“لماذا يا بنيتي … فعلتِ بي هذا؟ أريد إرضاعك لتكوني أختًا لأبنائي، وتريدين هلاكي! أريد عقد صلحٍ أزليٍّ، وعهدٍ معك وتريدين بثَّ سُمَّك الزعاف في جسدي المنهك الواهي الضعيف الذي ينوء بحمل أعباء الحياة المستمرة التي أبدأها كلَّ يومٍ في غبش الظلام، ولا أنتهي منها إلا بعد صلاة العشاء”.

ثم تمسح دموعها وتواصل حديثها:

“سامحك الله.. حتمًا لم تجرِّبي شعور الأمومة، لو كُنْتِ أُمًّا لَرَضَعْتِ وأرْضَعْتِ، وأشفَقْتِ على أمٍّ ليس عندها أغلى من فلذات كبدها الذين توخى حِمَامُ الموتِ ثلاثةً منهم … ما زلت أبكيهم … ما فتئت أفتقدهم … وسأظل بحسرتهم ما حييت! وأسأله عزَّ وجلَّ أن يبقي لي من عندي يرون يومي، ولا أرى أيامهم”.

حديث الأم مع نفسها (أو كما تخيل الراوي أنها تخاطب العقرب) يسمى المونولوج Monologue وهو: أداة أدبية تتضمن “خطابًا” تلقيه شخصية واحدة في عمل أدبي أو عمل درامي (للمسرح أو الفيلم). تسمح المونولوجات للشخصية بمخاطبة الشخصيات الأخرى الموجودة في المشهد و/أو القارئ/ الجمهور. ينشأ المونولوج من الجذور اليونانية التي تعني “وحده” و”الكلام”، هذا الجهاز الأدبي هادف وفعال في سرد ​​القصص لأنه يوفر للقارئ/ الجمهور تفاصيل حول الشخصية والحبكة. بالإضافة إلى ذلك، يعد المونولوج طريقة مفيدة للكتاب لمشاركة الأفكار الداخلية للشخصية بالإضافة إلى خلفيتهم الدرامية لتعزيز فهم القارئ لدوافع الشخصية وأهميتها في السرد.

يعمل مونولوج هذه الشخصية على توضيح أفكارهم الداخلية المعقدة بالإضافة إلى الكشف للقارئ عن الموضوع الأساسي للرواية وهو أن الازدواجية والترابط بين الأضداد أمر أساسي من حيث الوجود(3).

الازدواجية في أن الأم أحست أن العقرب لا ترضع لكن هناك ترابط بين الأضداد وهو أن لكل منهما ذرية، والأم لديها أو من فطرتها الشفقة بينما العقرب محرومة ذلك وإلا لما لدغتها.

يعد المونولوج أداة أدبية فعالة، خاصة من حيث تنمية الشخصية والمساهمة في تكوين الشخصية.

أعود إلى الراوي وهو الشخص الأول first person.  يؤخذ على الكاتب أيا كان عند استخدام هذا التكنيك:

– أنه يحد من قدرته على الوصول إلى أفكار ومشاعر الشخصيات الأخرى.

– لا يمكن لشخصيته أن تكون في كل مكان ولا يمكنها سماع كل شيء، وإلى حد ما، لا يمكن الاعتماد على جميع رواة القصص من منظور الشخص الأول، فهم في نهاية المطاف يروون أحداثًا تم تصفيتها من خلال مجموعة فريدة من الخبرات والمعتقدات والتحيزات الخاصة بهم. لا توجد تجربة مطلقة واحدة للواقع. سوف يكون السرد من منظور الشخص الأول مضللًا بكل ما يجعل هذه الشخصية فريدة وفردية، وهذا ينطبق حتى على أكثر الشخصيات صدقًا وموضوعية.

الراوي عندما تحدث عن الأم كأنها تحدث العقرب، انتقل بدون شعوره وكأنه في حالة لا وعي إلى الراوي الثالث الذي عرف ما تتحدث به الأم للعقرب بمشاعر فياضة. هنا ازدواجية في السرد تضعف العمل إلى حد ما، لكنها لا تؤثر كثيرا في تكامله. اللغة التي تحدثت بها الأم هي لغة الراوي الثالث، لأنها لغة فصحى بينما الأم إنسانة بسيطة تتحدث اللغة المحكية، ولعل الكاتب/ الراوي نسي في لحظة أن يكون الحديث أو المونولوج بسيطًا في بنائه وتراكيبه اللغوية ليتوافق مع حياة الأم غير المتعلمة.

هناك أيضا ازدواجية لغوية في السرد عندما يتحدث الراوي عن الأم عندما كانت تجري وراء نعش ابنها عليوي وتقول: (ردُّوا لي (عليوي) .. لا تدفنوه .. دخيلكم لا تدفنوه”

هذه اللغة منخفضة التصنيف مقارنة بحديث الأم المونولوجي عالي التصنيف، حيث إن الراوي الثالث ربما أدرك متأخرًا أن الأم أُميّة، والمونولوج يعكس علما ومعرفة تتناقض مع مستوى الأم الفكري والتعليمي.

 لعل لدغة العقرب من حرارتها جعلت الأم تهذي، وتظهر ما في نفسها من ألم وحزن على فقدان أبنائها الثلاثة الذين من حديثها أفترض أنهم ماتوا بلدغات عقارب. هذا الحديث أرادت منه الأم أن تبين للعقرب أنها أنثى مثلها وعندما أرضعتها أو حاولت إرضاعها لتحمي المتبقي من أبنائها، لكن أنّى للعقرب أن تتفهم تلك المشاعر الإنسانية، وهنا أدركت الأم ألا ترابط بينهما.

—————————————–

بقلم/ علي عويض الأزوري

—————————————–

1- الموسوعة البريطانية

2 https://symbolopedia.com/ar/scorpion -symbolism-meaning/

3- قاموس وبستر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى