إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

حين يفتك الاستبداد بالفلسفة.. سؤال الحريَّة عربيًّا

أهميَّة الفلسفة تظهر أكثر لكل باحث في مسببات تقدّم وتطوّر الأمم وعوامل حضارتها، إذ سنجد خلف هذه الإنجازات فلسفة وتفكير حرّ ومستقل. وهو تماماً ما يفسِّر أن كِلا الحضارتين الرومانيَّة واليونانيَّة كانتا مسبوقتين بالفكر الفلسفي المهم، ولاحقاً أدَّى تراجع الفلسفة والتفكير العقلي والفكر الحرّ إلى سقوطهما في القرن الخامس للميلاد.

الفلسفة ساهمت كذلك بفعاليَّة في بروز الحضارة الإسلاميَّة، خاصَّة في مرحلة الخلافة العباسيَّة التي شكَّلت شعاعًا علميًّا وفكريًّا لكافة البشريَّة. وكان للخلفاء والولاة وعدد من الوزراء وخواص القوم دورًا مهمًّا في توجيه ورعاية الفكر والعلوم والآداب وتنشيطها وتطويرها. إذ كانت تعقد مجالس فكريَّة وأدبيَّة وعلميَّة في القصور والأواوين، يتمّ خلالها التداول بالأدب والنقاش بالعلوم والسجال بالأفكار. وكان الأمراء والوزراء يغدقون الأموال والهبات على الشعراء والعلماء والفلاسفة. وقد اشتهر كثير من هذه المجالس لعلَّ أبرزها مجلس الوزير “يحيى بن خالد البرمكي” حيث شهدت سجالات وحوارات حول قضايا فقهيَّة وسياسيَّة وعلميَّة واجتماعيَّة، شارك فيها مفكِّرين وأدباء وأئمة.

وما أن أخذت المؤسَّسة السياسيَّة والسلطة الدينيَّة في التضييق على الفلاسفة واضطهادهم، حتى انزلقت الدولة الإسلاميَّة نحو قاع الصراعات التي أدَّت إلى انهيارها، وما تلا هذا الانهيار من تراجع وارتداد فكري فلسفي علمي مرعب، حيث غاب نور العقل والفكر وسادت العتمة والجهالة وانتشر الهراء لغاية اللحظة.

الفلسفة بثياب عربيَّة

الإهمال المتعمّد عربيًّا  للفلسفة والإجحاف الذي لحق بها وبتفاعلاتها، أصاب التفكير الفلسفي في الراهن العربي بضربة قاضية أودت به إلى الموت الدماغي، في حالة عربيَّة تشهد في مجملها انكسارًا وفشلًا وتعثُّرًا في كافة الميادين والمستويات، مما أوجد جدرانًا مرتفعة تحول بيننا كأمَّة ما زالت تتلمَّس وتبحث عن مشروعها النهضوي، وبرنامجها الإصلاحي، وتحديد رؤيتها الإستراتيجيَّة من جهة، وبين التحديث والتطوّر والتقدّم العلمي والصناعي والإنساني من جهة أخرى، وتحوّلنا بالكامل إلى قطعان تستهلك الإنتاج الحضاري للآخرين، بدءًا من أبسط الأشياء إلى أكثرها تعقيدًا.

 

فالعرب يتعاملون مع الفلسفة على أنها ترف فكري لا يمكنها معالجة مشكلات التنمية، ولا أن تطعم البطون الفارغة، ولا تقضي على الأمراض، ولا توفِّر مسكنًا لمتشرد. ويقولون باستهجان إذا كان الفلاسفة أنفسهم مختلفين بشدة فيما بينهم على تعريف موحّد للفلسفة ومختلفين في مذاهبها، فكيف يستطيعون مساعدة الناس في مواجهة متاعب الحياة.

ويضيف آخرون متسائلين بسطحيَّة مفزعة عن أهميَّة أن يطلع الإنسان المعاصر على نظريات سقراط وافلاطون وأرسطو، وماذا يحقّق إن قرأ أعمال هيجل وكانط وديكارت.

قديما كان ينظر للفلسفة على أنها أم العلوم، ثم أدَّى زيادة الاهتمام بدراسة الوقائع الماديَّة نتيجة تراكم المعلومات، وضرورات تعمق البحوث، كان لا بد من ظهور المنهاج التجريبي الذي يدرس الأجزاء وصولًا للكل، وهذا بطبيعة الحال يناقض المنهاج الفلسفي، لذلك استقلَّت العلوم عن الفلسفة. ولكن التقدّم العلمي الكبير والتطوّر الحضاري والقفزات التقنيَّة التي حقَّقها العالم، كشفت الحاجة للفلسفة مرة أخرى باعتبارها عاملًا مُحَرِّضًا للعقل وتنقيته من الأوهام والخرافات، وكذلك حاجة العلوم إلى دور الفلسفة لإجراء مقاربات أخلاقيَّة للاكتشافات العلميَّة، والأهم ترشيد التطوّر العلمي وتوظيفه لخدمة المجتمعات البشريَّة.

بهذا المعنى هل يوجد مشروع فلسفي عربي فاعل؟ هل توجد في الأصل فلسفة عربيَّة وإنتاج فلسفي؟

الجواب: بظني.. لا كبيرة، فما دامت الفلسفة في الواقع العربي كاصطلاح نظري أو كمنهاج أو كقيمة، معزولة عن بقيَّة المكوّنات التفاعليَّة المجتمعيَّة، وما دامت السلطة السياسيَّة والدينيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة تحظر التفكير الفلسفي المستقل، وتعتقل حريَّة العقل، وتحجر عليه لمنعه من ممارسة نقد فلسفي، فلا يمكن الحديث لا عن إنتاج فلسفي عربي ولا عن أي مشروع فلسفي. الأدهى انتشار ثقافة سطحيَّة تعتقد أن الفلسفة هي ممارسة قديمة لا يحتاجها عصر التقنيات. إضافة إلى نظرة البعض للفلسفة والتي يشوبها بعض السخريَّة والتهكّم. إنهم أصحاب مفاهيم مبتذلة لا تكترث بالفكر العلمي، ولا تجد نفسها معنيَّة بحالة التخلّف الحضاري للأمَّة العربيَّة. ولا شك أن لبعض الأنظمة وبعض القوى مصلحة كبرى في تعميم الظاهرة الظلاميَّة في الواقع العربي لتواصل انتفاعها من احتكار السلطة والثروة.

وفي العالم العربي سلطة كهنوتيَّة معطوبة تأخذ شكلًا ثيوقراطيًّا، تدّعي العصمة والتوكيليَّة، والتفرّد بامتلاك الحقيقة والمعرفة، وهي الأخرى لها مصلحة في المحافظة على الوضع الثقافي السقيم والسطحي القائم، خاصَّة فيما يرتبط بالفلسفة على اعتبارها ضربًا من ديباجات تنظيريَّة ضالة، وقد يصل البعض إطلاق اتّهامات بالجنون والزندقة على الفلسفة والفلاسفة.

الكاتب والباحث الفلسطيني/ حسن العاصي

 

المقال سبق نشره في مجلة التنويري بتاريخ 9/11/2020

مقالات ذات صلة

‫70 تعليقات

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى