إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

مجتمع أصحاب الكلاب اللطيفة

آمال العبيدي

 يقال أنه لتكسِرَ عُزلَتك، وتَندمج في المجتمع بسهولة يجب أن يكون لك أطفال أو كلاب. لا أدري مدى صحة هذه المقولة؟ لكن قد تبدو صحيحة إلى حد ما! فغالبًا لا تُرى الابتسامات إلا للأطفال أو للكلاب، فكما أن مفتتح الحديث في بر الإنجليز يكون عن الطقس، فإن الأحاديث في بلاد غوتة وشيلر قد تكون أحيانًا عن الأطفال والكلاب!.

في حديقة المدينة – Stadtpark – بأشجارها الشامخة، وأشكالها المتعددة حيثُ تتراصف جميعها في صفوف لا نهائية مرتبة على جنبات طرق المشاة، وتتعدد مسمياتها؛ ما بين أشجار البلوط، والبوق، والروبينيا، والجميز، والصنوبر، والبتولا، والرماد، والتفاح،  وأشجار أخرى تتوزع هنا وهناك في وسط الحديقة بمحاذاة  ممرات الدراجات. زقزقة العصافير التي تتحلق حول فرع شجرة عُلقت فيه “صُرة” مملؤة بأنواع مختلفة من الحبوب، تتسابق لتحصل على ما يَسِد رمقها منها. ومع تدفق الماء من النوافير المتناثرة على شكل تماثيل ضخمة هنا وهناك،  وخرير مياهها الذي تنقله بعض الجداول تحت جسور صغيرة تؤدي إلى فضاءات خُصِّصَت للعب الأطفال، تُسمَع ضحكات الصغار فيها، وصياحهم وهم يتسابقون للانزلاق من الألعاب المختلفة التي وضعت في هذا الركن من الحديقة.

 حين يَلجُ الداخل إلى تلك الحديقة؛ يتوقف أمام بعض اللوحات المعدنية التي تنتشر تحت الأشجار المختلفة، طُليت باللون الأخضر، وكُتِبَ على كل منها بالأبيض بعض مواد من “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” ببعض  لغات العالم ومنها العربية، “لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه”، “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير”، “لكل شخص الحق في التعلم”.

في ساحة معشوشبة في وسط الحديقة يقف “روبرت” وبعض من رفاقه من أصحاب الكلاب اللطيفة،  يمارسون عادتهم اليومية بالتنزه معها، حيثُ شكلوا تجمعًا صباحيًّا، يقذفون بالكرات الملونة، وبعض الألعاب المطاطية هنا وهناك، لتنطلق الكلاب راكضة خلفها، ولتتوقف من حين لآخر لتتشابك مع بعضها ولا يُفَض ذلك الاشتباك إلا بتدخل أصحابها. روبرت الذي قذفت به الأقدار منذ سنوات إلى هذه المدينة؛ وهو القادم من أتون حرب أهلية أحرقت الأخضر واليابس في “رواندا”، جاء مع زوجته التي كانت تعمل مراسلة صحفية لإحدى وكالات الأنباء؛ حين التقاها لم يكن يجمعه بها الكثير، كان أستاذًا جامعيًّا في بلاده ومتخصصًا في “الأنثروبولوجيا الاجتماعية”. لم يَعلم حينها كيف غادر بلاده؟ وكيف صَمد خلال كل تلك السنوات؟ كان عليه ان يبدأ من جديد؛ حياة جديدة، ولغة جديدة، وأصدقاء جدد لا يجمعه بهم شيء! حاول جاهدًا ولسنوات الاندماج من خلال اللغة، والدخول في مجالات العمل المختلفة، بعيدًا عن تخصصه، حيثُ إن الحصول على عمل في الجامعة يعتبر حُلمًا بعيد المنال، باستثناء انغماسه في بعض المشاريع البحثية الصغيرة في بعض المؤسسات. لم يكن الأمر سهلًا. تغيرت وظيفته بعد تدريب خاضه، وانغمس في مجتمع اختلفت فيه كثير من أنماط السلوك، والقيم، والتوجهات. تقاسم مع زوجته مسؤوليات الأسرة رغم صعوبة ذلك عليه. وأخذ على عاتقه طوال تلك السنوات مهمة الخروج صباحًا ومساءً مع كلاب الأسرة التي تنوعت في الأشكال، والأحجام، والأسماء. فإلى حديقة المدينة يقود كَلبي الأسرة (كيغالي، وأوسكار) إلى تجمع صباحي، وأخر مسائي لأصحاب الكلاب القاطنين بالقرب من الحديقة، يأخذون الكلاب في نزهات يومية إلى ذلك المكان الجميل. وما إن يُطلق سَراحها من السلاسل المربوطة في أعناقها حتى يَنطلق نباحها، وتتقافز فرحًا باللقاء هنا وهناك للعب معًا؛ وتنطلق مسرعة لتتقافز حول بعضها البعض على العُشب الأخضر، تُلاحق الكرات الملونة التي يرمي بها أصحابها في سباق لمسافات قصيرة.

 يتنوع مجتمع الكلاب اللطيفة؛ بين صغيرة الحجم، وأخرى كبيرة، وتتعدد مسمياتها: فمنها “كلب الراعي الألماني”، و “كلب الدوبرمان”، و “كلب البوكسر”، و “كلب الشناوزر”، و “كلب الشينوك” وغيرها من المسميات. بعضها يبدوا أكثر شراسة حيثُ يحتفظ أصحابها بغطاء فمها حتى يغادرون الحديقة. في هذه اللقاءات الصباحية والمسائية تُفتَح موضوعات كثيرة، يتبادل فيها أصحاب الكلاب الآراء، منها ما يتعلق بتعديلات قوانين الهجرة، ومنها بروز أحزاب جديدة بديلة، ومنها عن الحروب العادلة وغير العادلة، ومنها الاحتفالات الموسمية للمدينة، ومنها المهرجانات الموسيقية في بعض المناطق المجاورة، ومنها مخططات إجازات عيد الميلاد، أو الربيع والصيف، وكثير من الموضوعات التي لا يمكن الخوض فيها أحيانًا!.

 ذات صباح، حضر الجميع للحديقة، وتغيب “روبرت” وكلبيه، وغاب عن التجمع المسائي أيضًا. طال غيابه، ولم يعد صوت روبرت يَصدح، قيل أنه فَقَد عمله على خلفية منشور له عَبَّر فيه عن ما يحدث في الشرق الأوسط، بعد وشاية من زميل له، على إثرها شُكِّلَ له مجلس تحقيق، لتُعلن النتيجة؛ خسارته لوظيفته، وجاء في تقرير لجنة التحقيق: بما أنك مواطن تحمل جنسية هذا البلد، وبما أنك موظف عام تسري عليك جميع قوانينه، ومخالفة أيًا من تلك القوانين يُعَد انتهاكًا للنظام العام، فقد تقرر الاستغناء عن خدماتكم.

بقلم/ آمال العبيدي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88