الأدب والثقافةزوايا وأقلاممشاركات وكتابات

حينما تتسربل الأنثى بطعم الاختلاف .. دلالات تاء التأنيث وهاء الغائبة في لازوردية عطر ابتسام البقمي

مدخل نظري: العمل الأدبي بين الشاعرية والسردية:

يرى الناقد الروسي يوري لوتمان أن كل عمل فني يكون نسقيا وهو في الآن ذاته خرق لنسق. ومن هذا المنطلق الذي يبدو للبعض فيه تناقض واضح نستطيع أن نخلص إلى أن كل جنس، وإن كان يسير على خطى سابقة،  فهو أيضًا يخلق لنفسه منهجًا خاصًّا وديدنًا فريدًا، وبهذا المعنى فهو ينحت جماليته الخاصة، لذا فهو بين تكسير نسق وإثبات نسق جديد، وهذا الأمر هو ما يعطي الأدب عمومًا حركيته، ويبقي استمراريته ويعطيها جدة تدفع العمل الى التصدر والسيادة.

ونحن ننطلق من ميثاق الشرف التعاقدي الذي يؤسس العلاقة بين الكاتب المبدع من جهة، والقارئ المتلقي من جهة أخرى، وجدنا أن العمل المنتج يقدم نفسه تعاقديا على أنه مجموعة قصصية تندرج ضمن خانة القصة القصيرة جدًا. إلا أن الواقع القرائي المتعمق والمتذوق، والمتسلح بآليات التشريح النقدي، يؤكد مما لا يدع مجالا للشك أن الكاتبة قد سلكت نهج جمالية مختلفة ممثلة في “القصيدة – القصة”. ويتجلى ذلك أساسًا في محددين اثنين يعتبران مرتكزًا لهذا الطرح: الشاعرية أولًا والسردية ثانيًا.

1-  لا نجد أحداثا متسلسلة ومتلاحقة بقدر ما نجد دفقا شعوريًّا، يتلبسه الشعر وتسكنه جمالية الصورة الفنية.

2- الشاعرية في النص كل يغلف جميع تمفصلاته بما فيها من منحى حكائي ينحو نحو التجريد، ومن ثَمَّ كانت طرائق التعبير والوصف كلها ترزح تحت ثقل جمالي، بل إن الحدث السردي نفسه داخل ثنايا النص مصبوغ بنفس شعري يكاد يدرك بغير حذق أو فطانة.

بهذا الفهم السابق نجد أنفسنا إزاء مفهوم جديد للنص؛ تصبح فيه شاعرية القصة متوازنة مع سرديتها، إن لم تفقها، ولعل هذا أو بعض هذا ما دفع جملة من النقاد إلى وضع مصطلح جديد لهذا النوع من الكتابة أطلقوا عليه القصة – القصيدة تمييزا عن القصيدة – القصة. وجعلوا الفرق بينهما في الدرجة لا في النوع، فالقصة – القصيدة يظل النزوع فيها نحو الحكي أطغى، في حين يظل النزوع نحو الشعرية في القصيدة – القصة أبين وأظهر(1)

ويعتبر الكاتب (إدوارد الخراط) أول من اهتم بالحديث عن جمالية القصة – القصيدة في كتابه الموسوم “الكتابة عبر النوعية – مقالات في ظاهرة القصة – القصيدة ونصوص مختارة”.

وقد حدد لها الكاتب خصائص مميزة هي: الوجازة، التكثيف، وإيقاعية التشكيل.

عتبات المؤلف:

لا وقت للضياع، فالعطر اللازوردي وحده يحيل الهامش متنا ،ويجعل الغياب حضورا، لأن الإنساني لا يحتاج عنونة مشاعره.

لعل في العطر أريج حرف يضوع. وحينما يتفردن الإبداع ينتج فوح ورد لا شبيه له ولا نظير، إنما يكون الحرف سلوة نفس تعيش الوجع وتتعايش مع الألم، بل وفي أحايين كثيرة تتساكن معه، هذا التساكن المتضارب مع فطرة الخلق، إنما يحَلّيه البوح ويجليه، يمنحه شكلا آخر، بُعدًا مختلفًا، فيغدو بهذا المعنى وحده ملجأ ومنجى، يمنح كل ذلك ترياق حياة، هي حياة المبدعة نفسها.

العطر حياة ومنهج: لا شك أن العطر رهين بالمرأة قرين عطائها؛ ترب لها ونهج قيم، ليس بمعناه الذي يتداوله الناس  ولكنه بمعنى آخر أرقى وأنبل. إنه معنى العطر – البوح، ذاك الذي يمنح الحرف سكة العبور إلى الأنفاس المختلفة تذوقًا، سموقًا، واكتسابًا.

 فما الإبداع إذن .. إن لم ينسكب عطره في صحارى خالية جفت قلوب أصحابها؟

ما الكتابة إن لم تهرق في حروفها المتناثرة أمساك النبل وأريج الحب؟

وما الحرف إن لم يغتسل بأطاييب الأزهار ليجلو عن نفوس التائهين والحيارى أدران الوجع وأدناس الظلمة وأسجان الحلكة؟

تفكيكية العنونة بين عين شاعرة ترى ما لا يراه الآخرون، ورائحة مسك الحرف طبٌ للنفوس، وبلسم للجروح.

عين العطر: عمق بوح يناجي علوًّا عالميًّا لسيادة حب يعطي الإنسان كنهه بعد أن خسره كليًّا، فلم تعد له ماهية بعد أن فقد الذات وكل ما يرقيها وينقيها وطفق يلملم ويغنم؛ فما حاز ولا سلم، بل كبا حيث تاه وضاع؛ فتألم وندم.

ولعل في هذا المسلك العيني، عَيْن شاعرة أو مبدعة ترى ما لا يراه الآخرون، تراه بعين المبدع الأخرى المختلفة، ولن تكون إلا كذلك، حين تخرج عن طور الانسان، لتعانق طورا آخر يليق بها اختلافا وتفردا، فلن يكون الإبداع سردًا وشعرًا، والحالة هذه، إلا عينا تبحث عن مواضع الجمال لتنشرها، لتجعله يعُم ويَسود ويملأ أرجاء اتشحت بسواد قاتم حالك.

هو سواد الغدر، سواد الموت، وسواد النقمة. هو هكذا القريض بسمته ومسحته وروائه، حين يتسيد إنما جاء لينقي ويرقي، فتستمر المبدعة حينها صاحبة رسالة تسكب العطر فوق الحروف؛ يضوع أريجها، يفوح مسكها، يُشْتّم ولا يخفى لأنه بدون شبيه ولا نظير.

طاء العطر: الطاء طب النفوس التي لا تستطيب غير سلوك الإبداع نِحلة ونَهلة، تتزود به أسّا وأساسا، به تقاد وبه وحده تقود، إنه صناعة القريض والحرف معًا لصيانة النفس من السقوط في أوحال الدنيّة، وحمايتها من الأنا الشقية التي تحدثها النفس بما تكره الأنفس، حتى لا يعم كُره الآخر، وينتهي الآدمي مطاردا من بني جلدته طلبًا بمنال حطيم هزيم، يفنى بفناء الجسد الوضيع الذميم.

وبهذا المعنى وحده يتماهى الشعر مع الطب؛ إذ يغدو بلسم الجراح وترياق الأرواح الذي بدونه تتساقط المبادئ وتتكفن الأرواح، لأنه ينشر أملا وإن غشّاه الألم، يتوج البسمة والحب، وإن خيمت النقمة خيبة، وبلوغ الإرب بغية.

 راء العطر: رائحة تضوع، ريح فوح، لا ريح صرصر عاتية تقتلع الأخضر كما اليابس. تلك راء لا ينشدها إلا الجمال والجلال الماثل في  البوح المتفرد والنابت بين أحضان الحرف والسرد ازدهاءً وافتخارا.

 راء روح تتطيب بشِفّة الحرف النسوي ورقته راء رواء لا يتشرب إلا الغزل مسلكا ولا يرتوي إلا به، ولا يطيب له غير الدعوة لروح الطيب ورائحة شذاه كامنة في الأنثى مبدعة متفردة الكرامة، ماثلة في حواء عربية متمنعة في إباء وشرف موروث منذ الأزل.

لازوردية العطر تزيد البوح بهاء واشتهاء؛ فيغدو سلوة نفس لا تسلية عابرة، إنه نحت العبارة حين استواء الكلمة التي لا تتماهى إلا مع زرقة متوهجة تخالف ولا توازي أو تماهي.

تناسل الدلالات في رباعية ابتسام البقمي: عطر لازوردي، المتن والهامش، حضور وغياب، لا وقت للضياع: العطر اللازوردي متنًا وغيره هامش، هو الحضور حقيقة وغيره الغياب؛ فلا وقت للضياع تسييدا لسلطة متعة باذخة ينشرها الحرف الضوّاع.

عطر لازوردي:

 وها هي المبدعة تؤكد على المعنى ذاته، حين تقول: “صبت العطر في الوادي، فاحت رائحته في كل القرى المجاورة”(2)

 هو ذاك العطر الذي تنوي صاحبته نشره عبر الوادي، هو رفد للحياة، ولا حياة تتحقق بدون هذا الرفد المخصوص هنا تحديدًا، ذلك لأن الماء هو الحياة، فما الحياة بدون ماء؟

وحين يكون الماء رديف الحياة، أصلها وجوهرها متصلا بالعطر، ليمنح الحياة حيوات فوح تنشده الكاتبة عبر سكب الحرف، لذا كان صبه في الوادي وحده الكفيل بحمله إلى القرى المجاورة، لتتنسمه كل الأنفس التائهة هناك، لتتنعم بشذاه، وهي متعطشة لهذا العطر اللازوردي الذي يحمل الحياة، ويغذي شرايين الخليقة بنبض حرفها المتفرد، إنه حرف لن يشتمه إلا عاشق الحرف، ولا يتذوقه غير صاحب عطر لازوردي، وكأنها تعود لتخبرنا أن المعنى يظل خافيًا مختبئًا بين مدلولات حروفها، فيعود إليها وحدها تملكًا، فالمعنى بين تمثلات الحروف، وبين تناسل الكلمات، لن يكون إلا إسقاطيًّا.

وإذا كانت الكاتبة في إيرادها للعشق بصيغة جمع سالم(3)، وربطه بالحرف إضافة قد فسحت المجال لخاصة الخاصة، من أولئك الذين اتخذوا الحرف معشوقًا بغية الوصول إلى تنسم عطر لازوردي سمته الاختلاف وسنامه شعر متفرد.

المتن والهامش:

واذا اعتبرنا البداية متنا، ويحق لنا ذلك كونها تحمل العطر تصريحا وتتبنى اللازوردي خاتمة ليكتمل التبويب والعنونة في هذه القصة الأساس والمسلك تكثيفا وبغية غاية ومنية.

فكيف يضحك المتن للهامش؟

إنه ذلك الهامش الذي شطب من البداية، وأبعد من حسابات مخصوصة، لأنه لا يعشق الحرف تأكيدا.. فبأي طريقة تقدمه الكاتبة؟ وبأي منهج يتحقق وسمه إبداعيًّا؟

إنه لن يكون إلا زوبعة بنية، تزيدها البنية قتامة، وقعر الفنجان محسورًا ومحصورًا، محدود الأفق استصغارا.

فمن تكون يا هامش أمام متن بعطر لازوردي صب في وادي ليحمله إلى كل القرى المجاورة؟

ويستدعى هذا التخالف والتناقض تشاكلًا لا توازي فيه، ونحن نطالع ثلاثية القصة حضور وغياب.

حضور وغياب:

فكيف يجسد الحضور غيابا، وكيف يصير الغياب حضورا؟

الصمت لن يصير إلا قساوة في حضرة الغياب، فمن يملأ حضور الغياب أمام صمت قاس؟ حينها فقط يسيطر الغياب لكن الكلام يغدو سهلًا طبعًا في حضور الغياب، ذلك لأنه تسييد لكلام فارغ لا يساوي شيئًا، فهو لا حضور له. ولعل في الانكفاء على الذات دعوة تحضّر لحضور الوعي وسيطرة الاختمار إنضاجًا لذات الكاتبة لِتَحْضُرَ حضورًا يليق بها حرفًا ومبدًا.

لا وقت للضياع:

 ها هي دعوة الإنطلاق القابعة داخل أسوار النفس ووعاء الذاكرة، لأجرأة المتعة الباذخة في البهاء، هو بهاء الحرف ذاك طبعا، يمارس فيه الابداع وقتًا بلا ضياع.

وهذا المقطع هو استمرار للثالوث الأول الذي انكفأت فيه الكاتبة على الذات، ليس انكفاءً سلبيًّا كما يبدو للبعض؛ يُفضي إلى اندحار وتراخٍ، بل هو دعوة للإنضاج من أجل اختمار متعة باذخة في البهاء.

هذه التراتبية المفصلة على مقاس الكاتبة ما جعلها تتبع الرباعية بنص اختارت أن يكون بلا عنوان، فإذا كانت الرباعية المشار إليها سابقًا تصف وتميز، فذاك لا يعني أبدًا، وبأي حال من الأحوال، رفض ما يوحد ويحقق معاني مُستهدفة ومرجوة في النص – الرسالة.

وعلى هذا النهج جاء النص يافطة معلقة تحيل على الإنسان بلا عنوان، هو تماهٍ مع الأنسنة، فهو الإنسان بلا عنوان، أو هو إنسان كل العناوين، بعيدًا عن التصنيف والتعريف، بل ودون توصيف ولا ترصيف.

ولعل في نأي النسيان به عن غيره، دعوة صريحة، أو مخاثلة أيضا، تبتغي تسترا عبر الحرف، إلى نسيان ما به يُصَنّف نفسه عن غيره،رحتى يتميز ويَتّسم، ففي تحرره من مكان موشوم في ذاكرته طويلا، تخَلّقه من جديد، ليصل إلى ما ينتظره “الإنسانيّ” فيه توحيدًا وترقية.

بقلم/ عبد الله علي شبلي – باحث في النقد والجماليات – المغرب

الهوامش والمراجع:

¹ . ذ. نعيم اليافي نظرية الأجناس الأدبية وتقنيات القصة القصيرة المعاصرة في سوريا – تحديدات أولية مجلة البيان الكويت العدد 299 يونيو 1995 ص 21 .

² النص الأول تحت عنوان ” عطر لازوردي ” الصفحة 1 .

³ حين قولها ” غير عاشقي الحرف والعطر ” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى