تشكيل وتصويرفن و ثقافة

الغاليري يفتح أبوابه من جديد

عندما وقع انفجار الرابع من أغسطس (آب) الماضي في بيروت، كان الفنان التشكيلي مروان رشماوي يستعدّ لإقامة معرض في غاليري «صفير زملر» المحاذي للمرفأ. يومها كانت تجهيزاته لا تزال موضبة، ولم تُصب لحسن الحظ بأذى. لكن الغاليري نفسه أصيب بأعطاب كبيرة، مما اضطره للإقفال القسري. بعد مضي 9 أشهر، ها هو الغاليري يفتح أبوابه من جديد.

أبت صاحبة المكان؛ أندريه صفير زملر، التي لها غاليري آخر في هامبورغ بألمانيا، ولها صيتها في الأوساط الفنية العالمية، إلا أن تعيد افتتاح أبوابه في بيروت، مؤمنة أن لا مكان للاستسلام. وهي بذلك تشبه كثيراً من أصحاب الغاليريات في هذه المنطقة، التي أصبحت في السنوات الأخيرة مركزاً فنياً جديداً في العاصمة قضى عليه الانفجار.

الغاليري يفتح أبوابه من جديد

فرغم كوارث الأزمة الاقتصادية وصعوباتها، وتحديات الجائحة، سيعود غاليري «تانيت» القريب نسبياً من «صفير زملر» لاستكمال أعماله، رغم الأضرار الكبيرة التي لحقت ليس فقط بالغاليري نفسه، بل بالمبنى بأسره، وبمنزل صاحبته. وهذه بارقة أمل لأهالي بيروت، وهم يرون الغاليريات والمسارح والمراكز الثقافية التي طيّرها الانفجار، تستعيد الحياة واحدتها بعد الأخرى، مع أن الصعوبات الجمة كانت تشي بأنه لن يعود شيء إلى ما كان عليه. وتلك من المفاجآت القليلة السارّة.

في غاليري «صفير زملر» العودة كانت من حيث النهاية. رجع الفنان محمود رشماوي قبل أيام، ليعلن من خلال حوار شيق على «زوم» شاركت فيه صاحبة الغاليري أيضاً، افتتاح معرضه الذي يحمل عنوان: «واستمرت الأشجار بالتصويت للفأس»، بتأخير سنة كاملة.

هذا المعرض أخرته «كورونا»، وظروف الحجر، والأوضاع الاستثنائية التي يمر بها لبنان، وعصف به الانفجار، وانتظر إصلاح الغاليري، ليبصر النور. هذا كله ليس مهماً؛ الأهم أن الأعمال الفنية التي كانت جاهزة قبل الكارثة ها هي هنا، أضيف إليها ما استلهمه الفنان من الانفجار الفظيع الذي محا جزءاً معتبراً من ملامح بيروت.

من المدخل تستقبلك التجهيزات التي أعدها رشماوي من حطام معادن الجدران التي هوت. كل ما وقعت عليه يد الفنان من مخلفات الخراب في الغاليري حوله إلى أعمال فنية. في مواجهة باب الغاليري، علقت على الحائط خريطة الشاطئ البيروتي. بالشمع الأصفر رسم الفنان البحر، وبالإسمنت صنع اليابسة، أما الفاصل بينهما فهو خيط من نحاس.

«نحن نقف هنا»؛ يقول رشماوي شارحاً وهو يشير إلى الخريطة الضخمة، «وعلى نقطة أبعد، يقع المرفأ والعنبر رقم (12) الذي انفجرت فيه نيترات الأمونيوم، وقضت على جزء من العاصمة. وهنا تم ردم البحر وتغيرت المعالم. الخريطة تبين بدقة شكل الساحل البيروتي عام 2016.

أردت أن أؤرشفه لأنني أعرف أنه سيتغير سريعاً، ولن يبقى كما هو». ويضيف أن بيروت «نشأت وكبرت بسبب موقعها على البحر… هنا نزل المصريون مع الخبراء الفرنسيين، ليدخلوا إلى سوريا عام 1831، وأول ما فعلوه هو توسيع المرفأ، وتعمير الكرنتينا، وأخذوا بشق طريق الشام. لبنان مدخل إلى سوريا، مهما حاولنا نكران ذلك».

يحب رشماوي البحر والأفق. ومن الشمع والباطون أيضاً، رسم خط الأفق بمكعبات تتدرج بالألوان على مدى أكثر من لوحة يصطف بعضها إلى جانب بعض؛ تبدأ من الأخضر، متدرجة نحو الأزرق، لتصل إلى اللون الصفر.

في قسم آخر من المعرض يرى الزائر مجسمات لعمارات تشبه التي نراها في المدن الخارجة من الحرب… حيطان مهدمة، تكشف عن أجزاء من داخل العمارة.

عندما رأى رشماوي مشاهد الدمار الهائل في القصير أثناء الثورة السورية تذكر الدمار اللبناني خلال الحرب الأهلية.

بدأ عمله على ما أراد تسميتها «أعمدة الحكمة السبعة» مستعيداً اسم الكتاب الذي وضعه لورانس العرب، وما استتبعه من تقسيم وتفتيت للمنطقة. لكن الخراب استمر، واستكمل الفنان تشييد وصبّ أعمدته الإسمنتية، ليصل عددها إلى 45، بيعت في معظمها وبقي منها 16، هي المعروضة حالياً في غاليري «صفير زملر» في بيروت. أعمال تجولت في روما وهولندا والشارقة وإسطنبول، وعرضت في بعلبك.

أحدثها وآخرها أنجز عام 2019؛ هو مبنى تطل من أحد جدرانه شاشة تلفزيون. يقول رشماوي: «الغريب أن هذه السلسلة من العمائر الخربة أو غير المكتملة، كانت شرارتها مشهداً تلفزيونياً، وانتهت بمبنى يعلوه تلفزيون. هي مصادفة طريفة».

غالبية المباني غير مكتملة أساساً أو مهدّمة… لا يزال يعلو طابقها الأخير الحديد. هل هي إشارة إلى أن الأعمال في بلادنا لا تكتمل أبداً، أم إنها رمزية أمل بأن الحياة ستبقى مستمرة، وأن طوابق أخرى ستبصر النور؟ يترك لنا الفنان الإجابة عن هذا السؤال الصعب.

هنا عمارة لا نرى غير نصفها، بعد أن فقدت نصفها الآخر. أحد المباني نرى فيه جزءاً من بلاط مطبخ أو حمام، بعد أن تهدم الحائط الذي يستر الداخل.

الغاليري يفتح أبوابه من جديد

الأجمل ربما هي العمارة التي فقدت جانبها وبانت أدراج المبنى من أعلاه إلى طوابقه السفلى. لكل واحد من هذه العمارات وجعها؛ بينها ما تهاوى كالورق، وصارت الطبقات كصفحات كتاب.

لا يريد رشماوي أن يشعر بأي أسف لأن أعماله مستوحاة من دمارٍ لبناني وسوري. يرى أن العكس هو الصحيح: «لا بأس أن نتحدث عن إخفاقاتنا ونستوحيها.

لا بد أن نفهم ماضينا وأخطاءنا، وندرسها كي لا نكررها. جزء من المشكلة في لبنان أن السلطة حاولت في نهاية التسعينات أن تنسينا الحرب. لم نعكف على علاج المشكلة قبل رسم بداية جديدة».

مروان رشماوي، فنان فلسطيني مولود ومقيم في لبنان، له علاقة حميمة ببيروت، استلهم من آلامها وأحداثها، وتعقيداتها، أعماله المفاهيمية، التي وجدت لها صدىً عالمياً. عمل على مجموعة مفاهيم مختلفة يربط بينها هذا الهمّ المرتبط بحياة الناس، وفشل الحلول.

في ركن قصي من المعرض، مبنى من صنف آخر، ينتمي إلى سلسلة أخرى من الأعمال، خصصت للمشاريع البنيانية اللبنانية التي انتهت إلى فشل، ولم تصل مطلقاً إلى خواتيمها السعيدة، كما حال «برج المرّ» الذي كان يفترض أن يصبح برجاً مدنياً، لكنه صار برجاً عسكرياً بفعل الأمر الواقع، خلال الحرب… برج عسكري خلال الحرب، ولا يزال شاهداً على دوره هذا ولم يسكن مطلقاً. وقد خصص له تجهيز عام 2001.

من السلسلة نفسها، يعرض رشماوي هذه المرة مجسماً ضخماً نفذه على طريقته الخاصة لما يعرف بـ«تعاونية بيروت»؛ هذا المبنى الذي يقف شاهداً جديداً على شلل مشاريع لا تصل إلى غاياتها. القصة طريفة وحزينة، فخلال الحرب الأهلية، اضطر تجار الأسواق القديمة في وسط بيروت، بفعل الحرب، إلى النزوح ونصب بسطات على الكورنيش البحري، حتى إن كثافة وجودهم غطت مشهد البحر.

الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 1982 اضطرت هؤلاء إلى فك بسطاتهم والهرب من جديد… قرروا أن يقيموا مشروعاً لسوق تجمعهم، من خلال مساهمات جماعية لهم… جمعوا أموالاً ليبنوا هذه السوق في منطقة الجناح باسم «التعاونية».

وكما يحدث دائماً في البلاد السعيدة، وضع عدد من النافذين يدهم على المشروع، وانتهت قصته هنا، ولا يزال المبنى المهجور شاهداً على موت الأفكار والمشاريع التي كان بمقدورها أن تحقق أهدافاً لكثيرين، فيما تفرق شمل التجار، وتشتتوا؛ كل في مكان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88