إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

السوسة الناخرة والنخلة الفاخرة !!

النخلة شجرة عربية المنشأ ، أصيلة المبدأ تؤتي ثمارها كلّ حينٍ بإذن ربّها ، لها في العراق عراقة كبغدادها ، وفي عمان خبرة بانتاجها ، وفي طيبة ميزة كآثارها ، وفي نجد جودة لصحرائها ، وفي الإحساء قيمة كعيونها ، وفي مصر كثرة كمآذنها ، وفي الجزائر بساطة كأتلالها ، وقد ذكر السيوطي في كتابه الفريد ( المزهر في علوم اللغة ) عدداً من قيمتها حينما سئل أعرابي من عمان عنها : ( فما لك وللنخل ، فأين أنت عن الإبل قال: إن النَّخل حِمْلُها غذاء ، وسَعفها ضياء ، وجِذْعها بناء ، وكَرَبها صِلاء ، وليفها رِشاء ، وخوصها وِعاء ، وقَرْوُها إناء ) ، وكفى بفضلها أنّها من أكثر النبات ذكراً في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، وقد أحسن شوقي حينما اختصر مكانتها وقدرها في بيتين اثنين فقال :
أَهَذا هُوَ النَخلُ مَلكُ الرِياضِ
… أَميرُ الحُـقولِ عَــروسُ العِزَب
طَعامُ الفَقيرِ وَحَــلوى الغَنِيِّ
… وَزادُ الـمُسـافِــرِ وَالـمُـغـتَـرِب

والعجب أنّ وصفها في الديوان العربي يكاد يكون قليلاً رغم وفائها الجمّ لبني عروبتها وهذا ما جعل شوقي يقف وقوف المتعجّب المندهش من هذا الجحود حيث قال :
وَأَعجَبُ كَيفَ طَوى ذِكرَكُنَّ
… وَلَم يَحتَفِل شُعَـــراءُ العَرَب
أَلَيسَ حَراماً خُلُوُّ القَصائِدِ
… مِن وَصفِـكُنَّ وَعُطـلُ الكُتُب

ومن بديع المقطوعات في أدبنا العربي ما قاله صقر قريش عبدالرحمن الداخل حينما ترك دمشقَ فاراً بدولة بني أمية إلى أرض الأندلس إذ رأى نخلة آثرت الاعتزال في حيٍّ من أحياء مدينة قرطبة فأثارت في نفسه الحنين لأرضه المشرقية :
يا نخـلَ أنتِ غـريبة مـثلي
… في الأرضِ نائــيةٌ عن الأهلِ
تبــكي وهل تــبكي مكَمَّمَةٌ
… عجماءُ لم تُجبلْ على جَبلي
لو أنّـها عَـقِـلتْ إذن لبــكت
… مـاءَ الفراتِ ، ومنبِـت النخلِ

وفي أمريكا وما أدراك ما أمريكا وبالتحديد في كاليفورنيا كانت لزارعة النخيل قصة طويلة دارت بين الفشل والنجاح بدأت عام ١٨٧٧ م أي عام ١٢٩٤ هـ تقريباً وانتهت كما نراها اليوم في جودة تكاد تفوق جودة منبته الأصلي ، حتى أُطلق على النخل هناك جواهر الصحراء ، فعجبي لجِلَدِ وصبر وحكمة هؤلاء القوم كيف يعيشون لبناء وإعمار بلادهم دون منّة تفرضها عليهم الأمم الأخرى ، قال الشاعر أبو اليقضان :
لكـلِّ شَـعْبٍ رجالٌ ينهــضون به
… إِلى المعالي وكم يأتونَ من عجبِ !!

والعجب أن تجد بعض من هاجر وترك بلاده العربية إلى بلاد غريبة غربية لابتعاث أو نزهة أو غيره لم يأخذ من أصالة النخلة قيمتها وقدره ومبدأها ، فكان لبلاده بئس السفير ، فتراه مع أول سلّم في الطائرة خالعاً عادات أهله الأصيلة ، فتلك امرأة تنزع حجابها ، وذاك رجلٌ يتفرنج بقيم الغرب السفلى ، وينسى أو يتجاهل أنّه يمثّل بلده ودينه وعشيرته ، وتراه حين يرجع قد سفّه المبادئ ، وطعن في الثوابت ، ولم يتعلّم من النخل إخلاصها ووفاءها وكرمها الذي أطعم الفقير ، واستلذّه الغني ، وصاحب المسافر والمغترب كما ذكر شوقي ، وكان واقع حاله كما قال الفرزدق :
فَهَل أَنت إِلّا نَخلَةٌ غَيرَ أَنَّني
… أَراها لِغَيري ظِلُّها وَصِرامُها

ليأتي بقناعٍ صنعه الغرب على طريقته ، بعد أن نخروا نخلته بالسوسة الحمراء ، فعاد وهو من بني جلدتنا ينخر في جسد أمتنا ، والظنّ عنده أنّ حضارة الغرب في أخلاقه هي الحضارة التي ستنقذ العرب من جهلهم الصناعي وتخلّفهم التقني ، ولم يعلم أو علم أنّ أولئك إن هم إلّا كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً ، فلا روح إيمانية تربطهم ولا خُلقٍ نبويٍّ يجمعهم سوى حياة تتشرّبها المادّية المحضة التي لا تقوم على أدنى شيء من المشاعر والإنسانية ، ولم يدرك أنّ تخلّف العرب صنعته المؤامرات والمؤتمرات البرّاقة وإلّا فكم من عالمٍ عربي اغتالته يد الغدر تحت مظلّة الغرب ومن يعمل لصالحهم … فأقول :
صنعوا من السَّفَهِ المُقلِّدِ ماجداً
… وحـضارةُ الإنسانِ فيـما يُـبـدعُ

للأسف مثل هؤلاء وأمثالهم لم يأتوا بصناعة تفخر بها عروبتهم ، ولا اكتشاف تتباهى بها أرومتهم ، ولا تقنية تتسابق بها أوطانهم ، بل أخذوا يتشدّقون بالنُظم الأعجمية ولم يتعلموا منها على الأقل كيف يحترمون النظام في جوانب الحياة المختلفة ، ومنهم من يرطن في كلامه بعجمة مكسورة ، تفوهُ عوجاء بالتفاخر الأخرق ، ولو تعلّمها في بلده لما كلّف نفسه عناء السفر والغربة ، لكنها البلاهة لا تولّد إلا البلادة ، فحشفاً وسوء كيلة ، بل وفوق ذلك ظهر منهم من يسفّه قضايانا ، ويحدّد مصيرنا ، ويلعب بِمُثُلنا الاجتماعية ، فذاك يرى بيع القدس لليهود ليعمّ السلام ، وذاك يدعو للمساواة بين الجنسين ، وكأنّ الإسلام لم يحفظ للمرأة الحقوق ، فضاعت – بتفكيرهم السطحي لمكائد العدو – حقوق الرجال ، فأصبح الشباب الذين تراهم الأمم عمادها الأول والبنّاء للمستقبل دون وظائف سوى ما تَثْمُلُ به الأهواء من دسائس الأعداء ، فأقول :
إذا تاهَ الشــبابُ .. فـذاقَ مُــرّا
… فمن يحمي الذٍّمارَ ويخزي كيدا ؟!

ولأكون منصفاً لا يعني قولي هذا أنّ كلّ من هاجر هاجر عنه عقله ، بل هناك من شرفت به الأوطان ، فكان خير سفير لبلاده ، جاء بالطب فكان الدواء للداء ، وجاء بالهندسة فكان العبقرية في البناء ، وجاء طيّاراً فكان كالصقر في الأجواء ، وجاء بحّاراً فكان كالباخرة في الدأماء ، وجاء … وجاء … وجاء بالخير وهذا هو الرجاء ، فكانوا نخيلاً أصيلةً في منابتهم ، أمناء على بلدانهم ، نفخر بهم ونعتزّ ، ولأجلهم القلوب تهتزّ ، فهم شرف لنا بارك ﷲ في أعمارهم وأعمالهم … فكانوا كما قال ابن الرومي :
هو النخلةُ الطُّولى أبت أن تنالها
… يــــدانِ .. ولكــن ينْــعُـها مُتسـاقطُ

فالخاوية من النخل لا ترى منها بهجةً ولا ثمراً ، ولا ثمن سوى موقدٍ للشررِ ، فثرثرة الرياح مقالها ، ليس تريك أفعالها ، وإنما تغريك بحديث تظنّه نور المستقبل ، وربّما كان ظلاماً أخشاه ثقيل المَحْمَل ، فيا أيها الضجيج ( المطبّل ) المضلّل ، اتركوا الأفعال تتكلم ، ولا تجعلوا من الأقوال أفعالاً لم تتكلم .. ودعوا الأيام تُبدي لنا ما كنّا جاهلين … !.

ــ فاصلة منقوطة ؛

وبعضُ الرجالِ نخلةٌ لا جنى لها
… ولا ظـــلّ الاّ ان تُـــعَــدَّ من النَــخلِ
( متمم بن نويره اليربوعي )
———————————————
بقلم الأستاذ /
إبراهيم الوابل – أبو سليمان
‏ibrahim7370@
الاثنين – الموافق
٢٨ – ١٠ – ١٤٤٠هـ
١ – ٧ – ٢٠١٩م

مقالات ذات صلة

‫63 تعليقات

  1. إن النَّخل حِمْلُها غذاء ، وسَعفها ضياء ، وجِذْعها بناء ، وكَرَبها صِلاء ، وليفها رِشاء ، وخوصها وِعاء ، وقَرْوُها إناء

  2. يا نخـلَ أنتِ غـريبة مـثلي
    … في الأرضِ نائــيةٌ عن الأهلِ
    تبــكي وهل تــبكي مكَمَّمَةٌ
    … عجماءُ لم تُجبلْ على جَبلي
    لو أنّـها عَـقِـلتْ إذن لبــكت
    … مـاءَ الفراتِ ، ومنبِـت النخلِ

  3. هو النخلةُ الطُّولى أبت أن تنالها
    … يــــدانِ .. ولكــن ينْــعُـها مُتسـاقطُ

  4. عندما يكون الاستشهاد بطاحل الشعراء وكبار الأدباء فأبشر فإن النص لن يكون إلا جيدا.. أشكرك يا أبا سليمان كما عودتنا عربيتك عربية المنبع وأسلوبك رزين وموزون وكأني بك سيبويه قد تأخر به الزمان إلى زماننا هذا.. بارك الله فيك..

  5. عبارات متناسقة وألفاظ منتقاة بكل عناية وتناول جيد للموضوع.. تسلم يأبا سليمان

  6. والشيء بالشيء يذكر فالسنبلة الفارغة من الحبوب خفيفة متكبرة رافعة الرأس أما من هي ثقيلة بسنابلها وحبوبها تجدها خافضة رأسها متواضعة..كل الشكر والتقدير كاتبنا الحبيب

  7. مقال جدا رائع وأفكار مترابطة وموضوع جدا مهم بارك الله فيكم ونسأل الله إن يُكثر من النخل الأصيل في بلادنا .

  8. استاذ ابراهيم حياك وبياك وجعل الجنة مثواك
    عنوان المقالة السوسة النخرة والنخلة الفاخرة يبدأ وينتهي كله بالتطرق للنخيل وربطها بالاوضاع الاجتماعية ..
    ولكن أسلوب السجع كان فاحشاً ومتكرراً في المقالة ونحن في عصر لايحبذ فيه السجع ابدا
    وكأن النص منقول من كتب من أيام جدي الجرجاني ..
    خاصة مع وجود أخطاء في التناسب والتلاؤم في النصوص ..
    بورك فكرك وأعانك الله على المنتظر منك.
    حفيد الجرجاني

  9. تحياتي وأشواقي لردودكم … فهي مرآة للنقص الذي قد يعتري النص … أو تحفيز يجعل من القادم أفضل … عزيزي حفيد الجرجاني … إن كان عن السجع فهو سمة الأوائل من الجاحظ وابن حيان التوحيدي ومن أعرض عن سلفه تاه .. ولا يعني كون العصر لا يحبذه أن ننبذه ، فهاهو القوآن مملوء بالفاصلة المسجوعة ، وما أروع لحنه في هذا ، ولا يعني هذا محاكاة القرآن ، فمن المستحيل أن يأتي البشر بمثله كما قال ربنا ﷻ ، وما تغيّر وجه الكتابة النثرية إلا تأثراً بأسلوبه ، ومن أسباب كتابتي بهذا الأسلوب محاولة جذب من لا يقرأ إلى القراءة وهذا الذي لاحظته من خلال ردود الكثيرين عليّ في ( الواتساب ) ، ومشكلتي مع السجع أنه يأتي عفو الخاطر ، أما التلازم بين النصوص والهدف منه فالموضوع أعمق فيما يُظنّ من كونه اجتماعياً … وعلى العموم تبقى وجهة نظرك محلّ اهتمامي …

    محبتي للجميع ?

  10. النخلة شجرة عربية المنشأ ، أصيلة المبدأ تؤتي ثمارها كلّ حينٍ بإذن ربّها ، لها في العراق عراقة كبغدادها ، وفي عمان خبرة بانتاجها

  11. فالخاوية من النخل لا ترى منها بهجةً ولا ثمراً ، ولا ثمن سوى موقدٍ للشررِ ، فثرثرة الرياح مقالها ، ليس تريك أفعالها

  12. وإنما تغريك بحديث تظنّه نور المستقبل ، وربّما كان ظلاماً أخشاه ثقيل المَحْمَل ، فيا أيها الضجيج ( المطبّل ) المضلّل

  13. ولا تجعلوا من الأقوال أفعالاً لم تتكلم .. ودعوا الأيام تُبدي لنا ما كنّا جاهلين … !.

  14. لأكون منصفاً لا يعني قولي هذا أنّ كلّ من هاجر هاجر عنه عقله ، بل هناك من شرفت به الأوطان ، فكان خير سفير لبلاده

  15. الظنّ عنده أنّ حضارة الغرب في أخلاقه هي الحضارة التي ستنقذ العرب من جهلهم الصناعي وتخلّفهم التقني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88