إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

الشِّعر المنشود ، والشَّهد المفقود !!.

وسط تقلّب الفصول الأربعة ، وتغيّر الزمن بغرائب الأقنعة ، وهبوب الرياح ، وتوقّد الشمس الحارقة ، أو تغزّل الغيوم البارقة ، وبين صحراء مترامية الأطراف بالقحط ، لولا حنان خضرة الربيع ، ووسط رمالٍ شحيحة الأجواف بالنبع ، لولا أمان الغدير البديع ، تقف خيمة شيّد بناءها عمادها ، وشدّ ثباتها أوتادها ، فكان الرسوخ لها قوّة ، والوثوق بها عروة ، تجتذر الأرض كاجتذار الشجرة الشامخة ، لا تخيفها زوبعة العواصف ، ولا ما يُخبّئه الزمن من صارف ، إلا أن يكون الهلاك لها القاصف ، ( فكلّ شيء هالكٌ إلّا وجه ) و ( كلّ من عليها فان ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ).

فمن منطلق هذا الوصف ، وانتظام هذا الرصف ، كذا يعتقد الأبناء في أبيهم ، فهو في نظرهم خيمة وسَنَد ، ومشورة ورَشَد ، كما يرون فيه التجارب التي اختزنتها الذكريات فاعتبقت لهم بالحكمة ، فهو قنديل ظلام الدار ، وأحلام ضيائه السيّار ، ثناؤه لا يكذب عليك ، وعتبه رحمة منه إليك ، غضبه لذات الشفقة ، ورأفته أثمن لك من النفقة ، نجاحك في الحياة نجاحه ، واستباقك في المضمار استباقه ، وحيد الثقة في نصحك دون شكّ أو ريب ، فريد الفرحة بك دون مجاملة أو مَين ، شديد الخوف عليك دون دلالٍ أو لَين ، فمهما زعمت الوفاء له ، وأغدقت الإحسان إليه ، فلن يساوي حقك عليه ربع عُشر حقه عليك ، إنّه الأبُّ يا سادة ، فلولاه ما كنتُ مهما كان منه !. فأقول :
أبي أيّها الشعر يُروِي الفؤادَ
… رحـلتَ ، وروحـكَ لي حاضـره
تمــرّ الليالي … وما زلـت لي
… على صَرْفِـها ؛ حكـمةً سـاهره

أبي ، كيف مرّت العَشَرة ، بعدما كانت العِشْرة !؟ ، لم يكن فقدك ألماً بقدر ما كان قوّةً استلهم منه الأمل ، فأنت لم تعلمني الضعف يوماً ، بل علمتني كيف أنطلق مع الحياة متى أذاقتني حلاوتها ، وكيف أواجه الدنيا متى أكرهتني على مرارتها ، لذا دعني أخبرك بما قلتُ ، حين رحلت قبل عشر سنين ما دامت روحك بين أنفاس هذه الحروف حاضرة :
أبتاه .. مَن لي بعد فـقدك صاحبٌ
… أجــدُ .. الـمشــورة مـنـهُ كالإلــهامِ
كم قــد مشيت مــع الظلام مُـمَــزّقاً
… وضـــياء بــدرك ؛ مذهبـي ومقامي
أبـتـاه .. مـَن لي بعدَ بُعدك سلـوةٌ
… فلأ بـكــيــنّك يـقــظـتـي ومــنـامـي
كم كنت .. أخشى أن أراك بوعـكـةٍ
… عجبـاً .. وقد نهش التراب عظامي
فإذا ذكرتــك في الفــؤاد تــزاحـمت
… صــــورٌ .. مــــــــن الآمــــــال والآلامِ
وإذا لـمحتك فـي الخـيال تــناثـرت
… جُــمَلٌ .. مــن الإحـسـان والإقـــدامِ
يَـا والـدي ودّعـــت قـبـركَ .. راجـياً
… عــفــو الـكـريـم ، مـسيّــر الأجـــرامِ
وَدّعت قبرك .. والحصى تـبكـي لما
… أشـكـوه من زمــنٍ .. مضـى كظلامِ
ودّعت قـبرك … والخُــطى آثـارهـا
… جـبــلٌ عَلَـي .. مُـعـلَّـمٌ بـِـضــرامِ !!

أبي ، ها هو العيد يعود وأنت عنّا بعيد ، وها هو القلم يذرف حبره من جديد ، في ذات اليوم والشهر الذي شددت فيه رحال المسير ، وتناولت به عصا المصير ، وما نسب حبر هذا المقال إلا من الدمع الأوّل ، كان الرحيل فكان معه غروب شمسك الدافئة ، لتناجيك أرواحنا ، وترتفع لأجلك دعواتنا ، وتزهر في رثائك صفحتنا ، وتبكي بمحبّتك أقلامنا ، أبي ، قد جعلوا لك يوماً نفرح به مع مرور أيام العام ، ولم يعلموا أنّك عندي وعند إخوتي كلّ العام ، ولولا خشيتي العقوق لاحتفلت بذلك اليوم الواحد ، لكن الحقوق أعظم من أن يفي لها العمر كلّه ، فهل يفي لها يومٌ مُلقى على قارعة الحَولِ ، فما الطموح من وصالنا إلا الرضا ، وما الأمل من ابتهالنا إلا الجنة ، فأقول :
يا أيّها الشـــعـرُ في أوتــارِ مُنــشدهِ
… كيف اللقاءُ ؟! ، وبابُ القُربِ موصودُ
وكيـف للعيشَ يُســليني ببهجته ؟!
… وأنـتَ كالشَّـهـدِ في مـجـنـاهُ مـفـقـودُ

أبي ، كأنّي بأحمد شوقي حين رثا أباه ، قد رثاك في ديوانه قبلي ، لترفرف معه أجنحة قلبي ، فكلّما مرّ طيفك في المنام ، أو لمحته على أيكة الأفكار ، تلت نفسي شعره منشدة ، حيث قال :
سـألــونـي : لِـمَ لـم أرثِ أبـــي
… ورثـــاءُ الأبِّ ؛ ديــــنٌ أيّ ديـــن
أيّــهــا اللّــوام ، ما أظلـمكم !!
… أين لي العقل الذي يُسعد أين
يـا أبـي مــا أنــتَ فــي ذا أوّلٌ
… كـلّ نفسٍ للمــنايا فــرضُ عين
أنـا مـن مــات ، ومن مــات أنـا
… لـقـــيَ الـمــوت كــلانا مـرّتيـن
مــا أبـــي إلا أخٌ فــــارقــــتــــهُ
… ودّهُ الصدقُ وودُّ الــناس مَيـن
طـالــمـا قــمـنـا إلـى مــائـــدةٍ
… كانت الكــسـرةُ فـيـها كسرتين
وشـــربـنـا مـــن إنـــاءٍ واحـــدٍ
… وغـسـلـنـا بعد ذا فـيهِ الـيدين
وتــمــشّــيـنـا يــدي فـي يــدهِ
… من رآنـا قــال عــنّـا : أخــويـن
نــظــر الدهــر إليـــنا نـــظــرةً
… سـوّت الشرَّ فــكــانـت نظرتين

وبعد ، لا يكتمل منظر الشجر جمالاً إلا بلُجين الغدير ، ولا تتمُّ برودة الغدير إلا بظلال الشجر النضير ، والشجرة أمٌّ تشرب من سقي النمير فتظلّه ، فليت شعري ، إن جفّ الغدير واندثر ، أتفرّق عنها النفير فاغتبر ، وإن لم يتفرّق ، كيف للظلّ أن يُغني الطيور قطرة ماء ؟! ، فأقول :
أمــانُ الأبِّ لــيـسَ لـهُ شـبـيــهٌ
… وكـم أمٍّ حــــوتْ نـبـعَ الـوفــاءِ
فإن جفّ الغديرُ فهل ستُغني
… ظلالُ الدوحِ عن عيشٍ وماءِ ؟!

ــ فاصلة منقوطة ؛

ليبـكِ علـيك القلبُ ، لا العين ؛ إنّني
… أرى القـلبَ أوفى بالـعـهـود وأكـرما
فوالله ، لا أنــســـاك مــا ذرَّ شــــارقٌ
… ومــا حـــنّ طـيـرٌ بالأراكِ مـهـيـنــمَـا
عـلـيـك ســـلامُ ، لا لــقــاءةَ بـــعــدهُ
… إلى الحشر إذ يلـقى الأخير المقدّما
( محمود سامي البارودي )
———————————————
بقلم الأستاذ /
إبراهيم الوابل – أبو سليمان
‏ibrahim7370@
الاثنين – الموافق
٢١ – ١٠ – ١٤٤٠هـ
٢٤ – ٦ – ٢٠١٩م

مقالات ذات صلة

‫46 تعليقات

  1. ما أروعها من أبيات ليبـكِ علـيك القلبُ ، لا العين ؛ إنّني
    … أرى القـلبَ أوفى بالـعـهـود وأكـرما

  2. وسط تقلّب الفصول الأربعة ، وتغيّر الزمن بغرائب الأقنعة ، وهبوب الرياح ، وتوقّد الشمس الحارقة ، أو تغزّل الغيوم البارقة

  3. وبين صحراء مترامية الأطراف بالقحط ، لولا حنان خضرة الربيع ، ووسط رمالٍ شحيحة الأجواف بالنبع

  4. لولا أمان الغدير البديع ، تقف خيمة شيّد بناءها عمادها ، وشدّ ثباتها أوتادها ، فكان الرسوخ لها قوّة ، والوثوق بها عروة ،

  5. تجتذر الأرض كاجتذار الشجرة الشامخة ، لا تخيفها زوبعة العواصف ، ولا ما يُخبّئه الزمن من صارف ، إلا أن يكون الهلاك لها القاصف ،

  6. لا يكتمل منظر الشجر جمالاً إلا بلُجين الغدير ، ولا تتمُّ برودة الغدير إلا بظلال الشجر النضير ، والشجرة أمٌّ تشرب من سقي النمير فتظلّه

  7. إن جفّ الغدير واندثر ، أتفرّق عنها النفير فاغتبر ، وإن لم يتفرّق ، كيف للظلّ أن يُغني الطيور قطرة ماء

  8. أشكر الجميع على ردودهم المحفّزة … وأرجو أن أكون عند حسن ظنكم … ورحم ﷲ جميع أموات المسلمين ..

    تحياتي لكم جميعاً …

  9. أبتاه .. مَن لي بعد فـقدك صاحبٌ
    … أجــدُ .. الـمشــورة مـنـهُ كالإلــهامِ
    كم قــد مشيت مــع الظلام مُـمَــزّقاً
    … وضـــياء بــدرك ؛ مذهبـي ومقامي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88