زوايا وأقلاممشاركات وكتابات

لغة العرب بين عجمتين

عبد العزيز الرفاعي

هذه السطور تعبير موجز عن رأيي الشخصي كقارئ عادي أتيح له أن يطَّلعَ على بعض ملامح البيان العربي الأصيل القديم، ثم أتيح له أن يتابع إلى حد ما ملامح من البيان العربي الحديث، الذي بنى صرحه رعيل من الرجال، أذكر منهم على سبيل المثال: الدكتور محمد حسين هيكل، والدكتور طه حسين، والأستاذ أحمد حسن الزيات، والأستاذ عباس محمود العقاد، والأستاذ أحمد أمين، والدكتور زكي مبارك.. وغيرهم آخرون. ثم أتيح لي من بعد أن أرى غربة البيان العربي، وكيف تطغى التعابير الأجنبية، وكيف تتقلص الثقافة العربية، وكيف يلتوي الأسلوب، وكيف يعجم.

إن كلمتي هذه إذن.. إنما هي كلمة رقيب، يعمم ولا يخصص، ويدل ولا يحلل، ويلحظ ولا يمحص. أما التخصيص والتحليل والتمحيص فحق المختصين وحدهم.

قديمًا عانت الكلمة العربية من عجمتها الأولى، يوم انضم إلى موكب اللغة العربية قوافل من أمم الأرض التي امتد إليها النفوذ العربي، فالتقت ثمة عدة ثقافات، وخرج البيان العربي حينئذ من بساطته ونصاعته ووجازته إلى أنواع من التعقيد والتركيب والزخرفة والتوليد والإغراق والإغراب.. ونشأت مدارس جديدة في دنيا الأدب والثقافة، وكان للتأثير الفارسي دوره الفعال في بعض تلك المدارس الثقافية، حينما كان بلاط الخليفة العباسي، وبلاطات الحاكمين بأمرهم من ذوي النفوذ واقعة في سيطرة الثقافة الفارسية، وكان يفترض في موظفي الدواوين أن يكونوا على حظ من إجادتها، إذ كانت تعتبر لغة البلاط، وإن كانت إجادة العربية ونحوها وصرفها وبلاغتها مطمحًا ضروريًّا لبروز الأدباء والشعراء منذ القرن الهجري الرابع الذي يعتبر قمة النضج الأدبي للشعر والنثر في العصر الإسلامي. كانت بوادر العجمة الأولى تتسلل في رفق إلى اللغة العربية لتتدفق فيما بعد تدفقًا، على تفاوت في النسبة بين البيئات العربية، في المشرق أو المغرب.. إلا أن من المؤكد أن الكلمة العربية قد وصلت في العهود العثمانية المتأخرة إلى درجة كبيرة من الوهن والضعف والركاكة، حتى هيّأ الله لها البعث من جديد على أيدي نخبة من الرجال جمعوا بين الثقافة العربية الأصيلة والثقافة الغربية الحديثة؛ فكان أن اضطلعوا بدور جبار في إحياء البيان العربي، وفي إرجاع الديباجة العربية الناصعة إلى مكانها المرموق، مع جدة في الفكر والمضمون. تلك النخبة هي التي أسلفت الإشارة إلى بعض رجالها، ينضم إليهم رجال آخرون أدوا دورهم القيادي في دنيا الشعر كأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، حيث أرجعوا للشعر العربي أيضًا أسلوبه العربي المشرق، بينما أن هذه الصحوة التي حظيت بها اللغة العربية على أيدي هؤلاء الرجال، وأمثالهم في شتى أقطار العروبة، لم يقدر لها أن تصمد طويلًا للزحف الجديد، أو لتيار العجمة الجديدة أو العجمة الثانية التي جاءت كنتيجة طبيعية للإقبال على الثقافات الغربية الحديثة قبل أن تكون هناك أسس قوية من الثقافة العربية ذاتها، أي أن الأجيال التالية، أو معظمها لم تتوفر لها تلك الحصانة من الثقافة العربية المركزة التي توفرت لأمثال طه حسين والزيات والعقاد وشوقي؛ فأخذث آثار الثقافات الأجنبية، تغزو الأسلوب العربي.

أخذت الكلمة الإنجليزية أو الفرنسية تطفو على كل سطح، والتركيب الغربي في التعبير أخذ بدوره يكتسح البيان العربي، وسيطر اعتقاد أن اللغة العربية لا تملك من الثروة اللفظية ولا من طواعية التعبير ما يسد حاجة المثقف الحديث.

ولا مراء أن الحضارة الحديثة حضارة غربية، وبالتالي فإن لغات الغرب هي لغاتها، وأن مصطلحات هذه الحضارة ومسمياتها هي مصطلحات غربية. ولا مراء أيضًا أن اللغة العربية وقفت من هذه الحضارة موقف المبهور المأخوذ، وأن ما بذلته مجامعها اللغوية والعلمية لم يستطع أن يسيطر على التيار المتدفق من الغرب، وأن الصحافة العربية لم تؤدِّ أمانة التعريب كما ينبغي.

وكان طبيعيًّا بعد هذا الموقف الجديد وبعد انكماش الثقافة العربية القوية، أن تسيطر العجمة الجديدة على الأسلوب التعبيري في دنيا العرب، حتى لكأننا في كثير من الأحيان ونحن نقرأ لكاتب عربي، إنما نقرأ شيئًا عجيبًا؛ ليس بالعربي الواضح، ولا بالغربي الصريح؛ نرتطم بين الفينة والفينة بكلمات غربية، أو مصطلحات غربية، أو يلتوي التعبير العربي ذاته فلا يستقيم، ونشأت من هذا مشكلة جديدة.. الكاتب الحديث ؟! أهو يكتب للمثقفين فقط أم أنه يكتب لعامة الناس؟ مرور الذي يمثل القارئ أن عامة الناس، أو بتعبير آخر أدق -الجمهور الذي يمثل القارئ العادي- لا يستطيع أن يدرك أو يلاحق الكاتب الحديث الذي تشيع العجمة الحديثة في أسلوبه. ويدخل في هؤلاء عامة المثقفين الذين لم ينالوا حظًّا من التعليم الغربي؛ فوقفوا عند حد الثقافة العربية المحضة. أما إذا كان يكتب للمثقفين الذين هم على غراره؛ فإن رسالته في هذه الحالة أصبحت محدودة في أضيق نطاق ولم تؤد أهدافها.

وكنتيجة لهذا الانفصال الفكري، بين الكاتب وجمهوره؛ تعالت صيحات تدعو إلى علاج الداء الجديد، وكان أسوأ ما تنادى به القوم من علاج (الدعوة إلى الكتابة باللغة العامية). إن دعاة العامية، سواء صدروا في دعوتهم عن قصد حسن إنما يعالجون الداء بداء جديد، أعم وأطم، سيسبب انفصالًا فكريًّا واجتماعيًّا بل وقوميًّا بين المجتمع العربي كله، حيث ستنشطر اللغة العربية إلى لغات متعددة، يباعد الزمن بينها فلا تعود تلتقي، كما حدث بالنسبة للغة اللاتينية التي أصبحت لغات متعددة.

وكان أيسر من هذا جدًّا أن نعود إلى لغتنا العربية الواضحة الميسرة السهلة لكي نقوي دعائمها، وأن نحارب العجمة الجديدة في مدارسنا، وفي صحفنا، وفي كتابتنا، وفي أساليبنا، وعند أدبائنا، وبين إذاعاتنا، و(تلفازاتنا).

بقلم الأديب والشاعر السعودي/ عبد العزيز الرفاعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88