زوايا وأقلاممشاركات وكتابات

الطريق إلى هوف- Hof

آمال العبيدي

لم تكن المرة الأولى التي أخطئ فيها طريقي، فحكايتي مع القطارات لا تنتهي! فبعد يوم شاق، وطويل لا يضاهيه إلا سور الصين في طوله، عدتُ أدراجي متوجهة إلى مدينتي التي تبعد أكثر من ثمانين كيلو مترًا. ولجت القطار الذي سيقلني إليها، تلك المدينة الصاخبة نسبيًّا والتي لم أجد نفسي فيها، فعلاقتي بها عادية؛ حين أغادرها لا أفتقدها، وربما هي أيضًا لا تفتقدني. علاقاتنا مع المدن تشبه علاقاتنا مع البشر.. هناك من يلجون القلوب دون استئذان ويبقون في الذاكرة، وفي القلب كشقائق نعمان، أو كأشجار العوسج. وهناك من تلفظه الذاكرة كما يلفظ البحرُ أعشابه. الصُدفة وحدها قادتني إليها، كما قادتني إلى مدن كثيرة مررتُ بها، وعشتُ فيها؛ ولي فيها عناوين وحكايات.

أخذتُ طريقي إلى مقعدي المحاذي للشباك في العربة الثانية، ووجه في المقعد المقابل ينظر إلي، سمراء خلاسية، عينين سوداوين، وشفتين ممتلئتين، وشعر أجعد معقوص وموصول في ضفائر أرجوانية طويلة، يتراصف جزء منه كعناقيد عنب فوق رأسها، وأسدلت الباقي خلف ظهرها ليصل إلى ركبتها.. وعلى غير عادة أهل هذا البلد بادلتني التحية، وقدمت نفسها: أنا “إيشاكو – عائشة “، ابتَسَمت وسألتني من أين أنتِ؟ أخبرتها بأنني من ليبيا، البلد الذي يتوسد الصحراء، وينام في حضن البحر، ويتحزم بسلسلة من الجبال شرقًا وغربًا وجنوبًا، ويعيشُ على شفا حُفرة من النار! نَظَرت إليّ قائلة: أووو! ليبيا أعرفها! أعرفها جيدًا، هي البوابة التي قذفت بي إلى الشمال، لم تكن رحلتي عبرها سهلة، فحين غادرتُ قريتي “غووزا” في ولاية بورنو بنيجيريا، منذ عشرُ سنوات كان طريقي إليها محفوفًا بالمخاطر، كنتُ حينها في العشرين من عمري، انتقلتُ إليها عبر الصحراء بصحبة آخرين، تُرِكَ بعضنا ليموت عطشًا هناك، ومن تحالف مع الحظ وصل إلى الشمال.

في ليبيا كُنتُ على موعد مع العذاب، انتقلتُ خلالها عبر المدن، من الجنوب إلى الشمال، وفي مراكز قيل إنها “للإيواء” تَعرضتُ لكثير من صنوف العذاب، منه ما بقي في الذاكرة، ومنه ما غادر مع الموج الذي احتضنني حين تفكك القارب الذي أقلني وآخرين في عرض البحر، ولم أكن أعلم حينها بأنني سأكون على موعدٍ مع الحياة، وسأكون من الناجين الذين سيخلدون تلك الرحلة في قلوبهم وذاكرتهم، وسيغمضون أعينهم كل ليلة عنوة على صور وثَّقَت مآسٍ كثيرة. نَظَرت إلي، وهي تُشير إلى الصبي الذي برفقتها، وقالت: هذا ابني لم أعرف له أبًا، لكنه ليبي، حَملتُ به وغادرت، ولم أكن أعرف بأنني سأنجو معه، وسألده في بلاد بعيدة، إنه ولدي ستيفان، أطلقت عليه هذا الاسم تيمنًا بالطبيب الذي أنقذ حياتي وحياته عند الولادة.

المحطة القادمة “هوف”، وباب النزول على اليسار، هكذا أُعلنَ عن وصولنا للمحطة التالية. نَظَر الصبي إلى والدته، ماما.. وصلنا “هوف”، قالت نعم يا بني وصلنا!. نزلنا جميعًا، حيّتني وغادرت مع ابنها، وبدوري أخذتُ طريقي إلى الرصيف المقابل لأستقل القطار الذي سيعودُ بي إلى وجهتي.. إلى “نورينبرغ”.

غريبة هي الحياة، والأغرب منها هي الصُدَف! هل علي أن أخطئ طريقي لأستمع إلى قصة هذه المرأة، ولتحدثني عن بلادي التي لم أعد أعرفها، وعن معاناتها فيها. أدرك تمامًا بأن ما أرادت قوله لم تقله بعد، وما أردتُ معرفته لم أعرفه بعد، ومع ذلك ما عرفته اليوم كفيل بأن يجعلني أوقن بأن سر الحياة هو تحالفها مع الأمل، ومع البدايات الجديدة. بعد دقائق وقف القطار على الرصيف، ولجتُ إحدى عرباته، ولسان حالي يقول، لعل هناك قصةً أخرى في انتظاري، فما أردتُ معرفته لم أعرفه بعد.

بقلم/ آمال العبيدي

* هوف: Hof هوف (النطق الألماني: [hoːf]) وهي مدينة تقع على ضفاف نهر زاله في الركن الشمالي الشرقي من ولاية بافاريا الألمانية، في المنطقة الفرانكونية، على الحدود التشيكية، وجبال فيشتل الحرجية، ومناطق الغابات الفرانكونية المرتفعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88