إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

المهد قتل طفلنا

جُلت بذاكرتي حول هاجس كان ولا يزال يدور في كل جوارحي، فعيناي ما زالت تتذكر نفس المشهد، وقلبي يعيش نفس الإحساس بالحنو والدفء والود، وعقلي يفكر ويفكر كيف كان لهذا المشهد والحس والذكرى عبق خاص.
ها هو المهد لأخي الصغير، أمامي يتراقص ذات اليمين وذات الشمال، ولكنه يحمل هذه المرة طفلة لأختي الكبرى (ريم) المتزوجة منذ عامين.

كنت أجلس قرب مهد أخي.. عندما كنت في الحادية عشرة من العمر وأسمع تلك الأغنيات والأهازيج الشجية التي تترنم بها والدتنا وهي تغني (دوهه يا دوهه والكعبة بنوها ومن زمزم شربوها.. سيدي سافر مكة جاب لي زنبيل كعكة والكعكة عند العروس والعروس تبغا ولد والولد يبغا حليب والحليب عند البقرة …) وقبل أن تنتهي الأهزوجة ينام أخي، فتبتسم أمي وهي تغطيه وينقطع صوتها العذب الساحر بتعويذة وتحصينة لأخي (بسم الله عليك من فوقك ومن تحتك ومن خلفك ومن أمامك وعن يمينك وعن يسارك، أعيذك بالله وبكلماته التامات من كل شيطان وهامة).

ربما تعلمت الأمومة مبكرًا، فعندما يستيقط (منصور) ويبدأ في البكاء، أهرع مسرعة إلى مهده، فأرجحه يمنة ويسرة كبندول الساعة، أو ربما أمسك له زجاجة الحليب وأداعب بيدي خديه المشرقين، أتأمل هذا الوجه الجميل والعينين البريئتين، وكأنه ملاك أو ربما قطعة من القمر، أنظر إلى شفتيه وهي تبحث عن اللهاية، تغمرني السعادة عندما أرى ذلك الوجه الصبوح يبتسم لي.. آآآآه كم اشتقت إليك يا صغيرنا.

كم اشتقت إلى ذلك الوجه الذي يكاد يكون البدر في دجى الليل.

كم أتذكر كيف كانت أمي قلقة جدًا وكانت تخفي دموعها حين كانت تقيس درجة حرارتك يا طفلنا الغالي وتجدها مرتفعة ولا تنخفض بسهولة.

آه.. كم أسهرت أعيننا وأنت تبكي دون توقف، لم نكن نعلم أن رحلتك في هذه الحياة قصيرة، كما لم نعلم أنك ستتركنا وتغيب بلا عودة.

آه وقلوبنا تعتصر ألمًا وكمدًا عليك يا ملاكنا.. لم تكمل عامك الأول، لم تخطُ خطواتك الأولى بالحياة، لم أرك -وأنا أختك التي أكبرك بعشرة أعوام- تلعب أو تحمل حقيبتك لتذهب إلى المدرسة القريبة من منزلنا والتي لطالما وقفت أمامها بعدما أنجبتك أمي وأنا أتخيل أنك سوف تدلف إلى بوابتها وأنا ووالدي نراقب دخولك. رحلت مبكرًا دون حلم، فلم تحلم كما يحلم الكبار، كنا نتمنى أن نراك ضابطًا أو ربما طبيبًا أو مهندسًا ولكن نيوب القدر كأنت أسرع لك من أمانينا.

كم كنت أفكر كيف تكون لي أخًا (عزوة) حتى لو كنت أصغر مني لكن الأخ سند وعون لكل أخواته وكنت الأخ الوحيد لي وفي حياتي.

آه من بعض الذكرى لها نعش وقبر، ودهاليز مظلمة في بطون اللحود.

عندما زارتك (الحمى) أبت أن تفارقك ولم ترحل إلا بعد أن قضت على آخر آمالنا.

أووه من منظرك وأنت مسجى في المهد والأغطية الكثيرة تغطيك، وكنت أحاول رفعها عن وجهك وأمي تبعدني عن مهدك ودموعها تترقق بعينها وهي تتمتم: لاحول ولا قوة إلا بالله.

وتحملك مع الأغطية، لتأخذك وتحملك إحدى النساء وأختي تجذبني لأجلس بعيدًا عن أمي والنساء في صحن دارنا، وصوت بكاء وأدعية يصل لمسامعي من بعيد.

انتفضت من ذكرياتي خلال لحظة سريعة وقد تفاجأت بصوت بكاء طفل، نظرت إلى المهد وأنا ممسكة بطرفه، وقد كنت أسترجع ذكرياتي مع “منصور” أخي، وما تبقى في أعماق ذاكرتي منها.

ها هي الجميلة (نسرين) ابنة أختي ذات السبعة أشهر، تصرخ وكأنها تطلب مني وقف جريان دموعي على خدي أو ربما كانت جائعة.. لا أعلم!.

امتدت يدي نحوها مسرعة -لا شعوريًّا- لأحملها وأبتعد بها عن المهد، وأنا حانقة على المهد وكنت أتمتم: إنه مهد مشؤوم مليئ بالأحزان وفي داخله يقبع الموت.
وضعت نسرين بكل حنو على سريري، وقدمت لها قنينة الحليب حتى نامت.

نظرت إلى الساعة على مكتبي.. إنها ما زالت في فترة العصر، وقد خرجت أمي وأختي في زيارة لقريبة لنا مريضة.
همست لنفسي فرحة: ما زال هنالك وقت، ولن تموت “نسرين” مثل أخي “منصور”.

ركضت إلى غرفة أمي، حملت المهد خلسة وألقيت به وذكرياته في حاوية النفايات، واتجهت إلى السوق القريب من منزلنا؛ ابتعت منه مهدًا.

ها هو المهد الجديد وها هي طفلتنا نسرين تغفو داخله في أمان، وقلبي يختلج فرحًا وطمأنينة فلن يقتل المهد طفلتنا المدللة.

بقلم/ نهى عبد الله الجابري

مقالات ذات صلة

‫58 تعليقات

  1. إبدعتي ياجميلتي كلمات متناسقه في غايه الروعة والجمال استوقفتني جملة كم اشتقت إلى ذلك الوجه الذي يكاد يكون البدر في دجى الليل سلمت أناملك الجميلة يامبدعتنا ياملهمة أتمنى لكي مزيدًا من التقدم والنجاح كلمات في قمه العذوبة والأنوثة

  2. كم أنتي جميله في كتاباتك ورائعه في سردها زادك الله علما وفقها وحكمه..
    اتمنى لك التوفيق و نشوف كتابك ف المعارض الدوليه ⭐️

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88