التاريخ يتحدثتاريخ ومعــالم

علي بك الكبير الرجل الطموح الذي حكم مصر

صارت مصر ولاية عثمانية منذ أن نجح السلطان سليم الأول في القضاء على دولة المماليك ودخول القاهرة في سنة (923 هـ = 1517م)، وتعاقب على حكم مصر منذ ذلك الحين حتى مجيء الحملة الفرنسية سنة 1798 عدد من الولاة الذين ترسلهم الدولة العثمانية لإدارة شؤون البلاد في مصر، واستمد هؤلاء هيبتهم من هيبة الدولة وقوتها، وأمسكوا بزمام الأمور في قوة وحزم، وإن مارس بعضهم كثيرا من التجاوزات في إدارته للحكم.
اقرأ المزيد من صحيفة هتون الدولية


خلال القرن الثامن عشر تغيرت موازين القوى السياسية في مصر واختلف نظام توزيع السلطات؛ فبينما كان الوالي يعد صاحب الكلمة العليا في البلاد؛ لأنه يمثل الخليفة ويرمز وجوده إلى العلاقة القائمة بين مصر والدولة العثمانية، إذا به يفقد سلطته بالتدريج ويتضاءل نفوذه السياسي حتى لم تعد اختصاصاته تتجاوز الإشراف على جمع الضرائب وإرسالها إلى الأستانة، أما السلطة الفعلية حينها فقد تركزت في يد المماليك الذين اشتدت شوكتهم ونمت شخصية الزعيم الذي يختارونه حتى طغت على قوة الوالي.

وخلال عام 1745 عينت الدولة العثمانية محمد راغب باشا واليًا على مصر، الذي كان قبل ذلك رئيسًا للكتاب واشترك في المفاوضات التي أدت إلى توقيع معاهدة بلغراد الشهيرة، وقد أتى هذا الوالي إلى مصر بمخطط خطير وهو إعداد مذبحة للمماليك يقضي فيها على قوتهم الطاغية وبذلك تستعيد الدولة هيبتها، وبعد أن نجح بالفعل في قتل عدد كبير منهم أدرك إبراهيم كخيا ومراد بك وهما من كبار المماليك مخطط راغب باشا فأسرعوا إلى احتلال القلعة والتحق بهم الجند وأجبروا بعدها راغب بك على الخضوع بعد أن سجنوه وسمحوا له بمغادرة البلاد عام 1748.

ومنذ ذلك الحين تراجعت سلطة الولاة لصالح الحكام الحقيقيين وهم المماليك وأصبح زعيمهم يُلقب بشيخ البلد؛ وقتذاك خلصت رياسة مصر وإماراتها إلى إبراهيم بك وهو مولى علي بك الكبير الذي مهد له الطريق وأقام أمامه النموذج ليحتذيه: إذ كان إبراهيم بك يحب علي كثيرًا ويجل مواهبه، ومما زاد تعلقه به أنه اصطحبه مرة في قافلة إلى بلاد الحرمين وفي الطريق لاقتهم عصابة من اللصوص فدافع عنه علي وأنقذ حياته.

علي بك الكبير يصل لمنصب شيخ البلد

كان حب إبراهيم كخيا لعلي واضحًا للمماليك الآخرين، وهو الأمر الذي أثار غيرتهم وحين رفع إبراهيم رتبة علي إلى بك غضب أحد البكوات واسمه إبراهيم بك الشركسي كثيرًا وقتل إبراهيم كخيا، ولما كان علي بك كثير الإخلاص لإبراهيم كخيا فقد قرر الانتقام له، ولهذا مكث ثماني سنوات اشتغل في أثنائها بجمع القوة فابتاع عددًا كبيرًا من المماليك ووطد علاقته مع البكوات الآخرين واكتسب ثقتهم، ولكن خليل بك شيخ البلد تنبه إلى أفعاله ورأى أن يقضي عليه قبل أن يستفحل أمره فهجم عليه بقواته ولما لم يقو عليه علي بك فر إلى الصعيد وعاش في كنف دولة شيخ العرب همام، وهناك التقى بمجموعة من الساخطين على خليل بك فزود عدد أتباعه وعاد إلى القاهرة ليتمكن في نهاية الأمر من استلام مشيخة البلد في القاهرة عام1763 ويأمر فورًا بقتل إبراهيم الشركسي.

وبسبب هذا القرار وشى أعيان البكوات بعلي بك إلى الباب العالي مما اضطره إلى الفرار لبيت المقدس ثم إلى عكا فاليمن حتى عاد إلى القاهرة وتسلم زمام الأمور مرة أخرى، وعلى الفور بدأ علي بك بإصلاح البلاد وقرر أن يكثر من أتباعه المماليك فرقى منهم 18 إلى رتبة البكوية حتى يكونوا عونًا له في المستقبل، بعد ذلك طمحت نفسه إلى الاستقلال بمصر فانكب على حلمه وأعد العدة لتحقيقه؛ وقتذاك كان علي بك على دراية كبيرة بأن دولة شيخ العرب همام في الصعيد تهدد طموحه التوسعي، ولذلك قرر محاربتها حتى يستولي على جميع الأراضي المصرية.

منذ صغره تعلم علي بك درسًا هامًا على يد مولاه إبراهيم كيخا؛ إذا أراد الانتصار عليه أن يفرق الجماعة ويستفرد بخصمه وحيدًا وهذا تحديدًا ما فعله علي بك مع شيخ العرب همام: ففي البداية قتل حليفه صالح بك القاسمي حاكم جرجا بسويقة عصفور بالقاهرة، وبعدها أرسل قائده محمد أبو الدهب لمحاربة شيخ العرب همام في فرشوط، ولكن كالعادة لم يحارب قائد علي بك بشرف إذ أغرى ابن عم همام الشيخ إسماعيل أبو عبد الله بالخيانة ووعده بولاية الصعيد مقابل نشر فكرة التخاذل بين صفوف همام والانسحاب من جيشه وهو الأمر الذي أدى في النهاية إلى هزيمة شيخ العرب همام الذي مات من شدة الحزن، وبذلك تمكن علي بك من السيطرة على الداخل المصري شمالًا وجنوبًا.

الحرب مع روسيا

استغل علي بك الكبير فرصة انشغال الدولة العثمانية في حربها مع روسيا، ولم تكن نتائجها في صالح العثمانيين الذين منوا بخسائر فادحة، فاستصدر أمرًا من الديوان بعزل الوالي العثماني، وتولى هو منصب القائمقام بدلا من الوالي المخلوع 1768، وأتبع ذلك بمنعه قدوم الولاة الأتراك إلى القاهرة، فلم ترسل الدولة أحدًا منهم على مدى أربع سنوات، كما أوقف إرسال الأموال المقررة سنويًّا على مصر إلى الدولة العثمانية.

نجح أيضا في السيطرة على الوجهين البحري والقبلي، وقضى على الفتن هناك، ثم قضى على نفوذ شيخ العرب همام بن يوسف الهواري زعيم الصعيد، الذي كان يلجأ إليه كثير من منافسي علي بك الكبير طالبين حمايته وإمدادهم بالمال والسلاح، ولم يلبث أن توفي شيخ العرب همام وزالت دولته من بلاد الصعيد، وخلصت مصر بوجهيها البحري والقبلي لعلي بك وأتباعه.

ضم بلاد اليمن والشام

تطلع علي بك لضم الحجاز لتأمين الحج للمصريين والمغاربة والشوام، وإحياء تجارة مصر مع الهند بالاستيلاء على ميناء جدة التجاري ذي الشهرة الواسعة، وجعله مستودعا وسطا لتجارة الهند والشرق الأقصى، فيعيد بذلك الثروة والغنى التي فقدتها مصر من جراء تحول تجارة الشرق إلى طريق الرجاء الصالح.

وانتهز علي بك فرصة النزاع الذي دار بين اثنين من أشراف الحجاز حول الحكم، فتدخل لصالح أحدهما وأرسل حملة عسكرية يقودها محمد بك أبو الدهب عام 1770، ونجحت في مهمتها، ونودي بـ «علي بك الكبير’» في الحرمين الشريفين سلطان مصر وخاقان البحرين، وذكر اسمه ولقبه على منابر المساجد في الحجاز كلها.

شجع نجاح حملة الحجاز علي بك الكبير على أن يتطلع إلى إرسال حملة إلى بلاد الشام منتهزا سوء أحوالها وتعدد طوائفها، واستنجاد صديقه والي عكا ظاهر العمر، به الذي نجح في أن يمد نفوذه في جنوب سوريا، وكان هو الآخر يسعى إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية.

تمكن محمد أبو الدهب من تحقيق انتصارات هائلة، فاستولى على غزة والرملة، ولما اقتربت قواته من بيت المقدس خرج إليه حاكمها وقضاتها وأعيانها ورحبوا بقدوم الحملة المصرية فدخلتها دون قتال، واستسلمت يافا بعد حصار دام شهرين، ثم انضمت قوات الشيخ ضاهر إلى القوات المصرية ففتحوا صيدا، ولم يبق أمامهم سوى دمشق، والتقى الجيشان الحليفان بالجيش العثماني الذي لم يستطع المواجهة والصمود ولقي هزيمة كبيرة، ودخل محمد أبو الدهب دمشق في يونيو عام 1771.

انقلاب أبو الذهب

وفي الوقت الذي كان فيه علي بك الكبير يحتفل بهذا النصر الكبير، وتزينت القاهرة لهذه المناسبة استصدر السلطان العثماني فتوى من قاضي القضاة والمفتي الأعظم باعتبار علي بك ورجاله وحلفاءه وأنصاره، بغاة خارجين على الدولة يجب قتلهم أينما وجدوا.

عاد أبو الدهب سريعًا إلى مصر، وسحب في طريق عودته جميع الحاميات التي كان قد أقامها في البلاد المفتوحة، وبدأ يحارب سيده، ولا يلتزم بقراراته، وتأكد علي بك من عدم ولاء أبي الدهب له بعد رفضه عدم العودة إلى فلسطين، وعجز عن اتخاذ قرار صارم ضد تابعه الذي خرج عليه.

لم يعد هناك مفر من الصدام بين الرجلين، وانتهت الغلبة فيه لأبي الدهب، واضطر علي بك الكبير إلى مغادرة القاهرة والالتجاء إلى صديقه ظاهر العمر، ومعه ثروته الضخمة وسبعة آلاف من فرسانه ومشاته، وبدأ في تنظيم قواته والاتصال بقائد الأسطول الروسي الذي راح يمنيه بقرب وصول المساعدات، لكن هذه الوعود تمخضت عن ثلاثة مدافع وبضعة ضباط وعدد من البنادق.

تعجل علي بك العودة إلى مصر على غير رغبة ضاهر العمر، الذي نصحه بالتريث والتمهل، حتى إذا وصل إلى الصالحية بالشرقية، التقى بجيش أبي الدهب في 26 أبريل 1773 م، في معركة كان النصر فيها حليف الأخير، وأصيب علي بك في هذه المعركة بجراح خطيرة، ونقل إلى القاهرة، حيث قدم له مملوكه أبو الدهب الرعاية الطبية، لكن ذلك لم يغنِ عن الأمر شيئا فلقي ربه في مثل هذا اليوم من عام 1773، تاركًا للتاريخ أقرب التجارب لاقتحام عصر الحداثة في المحروسة بالتاريخ الحديث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88